يدرك المؤمنون بالله أن الله سبحانه خلقهم لغاية وهي توحيده بالعبادة، وإفراده بالطاعة، فلم يخلقهم عبثًا ولم يتركهم هملًا، بل أرسل فيهم رسلًا تترا وأنزل معهم الكتب بالحق ليدلوا الناس على صراطه كلما اجتالتهم الشياطين عنه، فقال جل في علاه: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء:165]، فقد أعذر الله لعباده، وهو الغني عنهم، لا تضره معصيتهم كما لا تنفعه طاعتهم، ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ [الزمر:7]، ولكن كما أخبر النبي ﷺ عن ربه فقال: ” ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين “[1].
وقد خص الله هذه الأمة الخاتمة بخيرة الرسل وأعظم الكتب وأكمل الشرائع، ليخرجهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الهداية، ﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد:9]، فتم أمرَه ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، كما جاء في التوراة وعدُه: ” ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا “[2]، ولأنه خاتم المرسلين وبعث للعالمين، فكان منهم المؤمنون وأكثرهم المكذبون كما هي عادة الناس مع أنبيائهم، ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف:103].
وقد تجلت رحمة الله بعباده أيما وضوح في هذه الرسالة وهذا الرسول، فهو رحمة للمؤمن ورحمة للكافر كما قال عز وجل: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء:107]، قال ابن عباس رضي الله عنه: ” من آمن بالله واليوم الآخر كُتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله، عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف “[3]، فهذا مصداق وصف الله جل في علاه لرسوله محمدًا ﷺ بقوله: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ﴾ [التوبة:128]، أي عزيز عليه عنت أمته، حريص على هدايتهم، فهو الشفيق الرفيق الحريص على الأخذ بحجزهم عن النار كما قال: ” إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وهم يقتحمون فيها “[4]، فمن أطاعه وآمن بما بعث به فقد فاز فوزًا عظيمًا، ومن عصاه وكفر برسالته فقد خسر خسرانًا مبينًا، لأنه الدين الحق والرسالة الناسخة لما سبقها من الشرائع، ولا يقبل الله غيره دينًا: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران:85]، فهو الدين الصحيح: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران:19]، وهو الشريعة المرضية: ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة:3].
ومن رحمة هذا النبي الآمين ﷺ بأمته أنه لم يداهن يومًا في دين الله، ولم يقصّر لحظةً في بلاغ رسالاته، بل قد عاتبه ربه في غير موضعٍ على إهلاكه نفسه إبتغاء إيمان الناس وهداية بعض أعيانهم، فقال تعالى: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف:6]، وقال: ﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ﴾ [الشعراء:3]، وكأنه في حرصه الشديد على إيمانهم كالمكرِه لهم، والله لم يكلفه ذلك بل حسبه البلاغ، إذ إن القلوب لا يطّلع عليها إلا مالكها، ولا يُصرّفها إلا بارئها، لذلك قال الله لنبيه مُسليًا له: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس:99]، أي: تلزمهم وتلجئهم ﴿ حتى يكونوا مؤمنين ﴾!، أي: ليس ذلك عليك ولا إليك، بل إلى الله، وقال تعالى: ﴿ يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ﴾ [فاطر: 8]، وقال تعالى: ﴿ أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ﴾ [الرعد:31]؛ وقال أيضًا: ﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ [البقرة:272]، وقال: ﴿ إنك لا تهدي من أحببت ﴾ [القصص:56]، وقال: ﴿ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾ [الرعد:40]، وقال: ﴿ فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر ﴾ [الغاشية:21 – 22] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى هو الفعال لما يريد، الهادي لمن يشاء، المضل لمن يشاء، لعلمه وحكمته وعدله[5]
كما أن الإكراه ليس بالطريقة المرضية لإيمان الناس فإنهم جميعًا ” تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم، الذي لا يُخالف ولا يمانع “[6]، كما قال جل في علاه: ﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آل عمران:83]، وقلوب العباد بين إصبعين من أصابعه، فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة كلهم على الإيمان، ولكنه رضي الإيمان ممن جاء به مصدقًا ولشرعه مستسلمًا ولأمره منقادًا، وأما من أظهر الإسلام على جوارحه وأجرى كلمته على لسانه ولم يتكلم بها قلبه فهو المنافق الذي بشره بالدرك الأسفل من النار، فإن القلوب هي موضع نظر الله، وهي تربة الإيمان التي ينبت فيها، وإذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
وكذلك الإكراه ليس بالطريقة الشرعية التي سنها الله لدعوته، بل نهى عن ذلك بقوله عز وجل: ﴿ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة:256]، وهذا نفي في معنى النهي، أي لا تكرهوا أحدا على الدين، قال ابن القيم ت 751ه: ” ومن تأمل سيرة النبي ﷺ تبين له أنه لم يكره أحدًا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله “[7]، وقد جاء هديه ﷺ أنه كان إذا أمر أميرًا على جيش، أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: ” اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال – أو خلال – فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم “[8]، لذا يقول ابن تيمية ت 728ه: ” ولا يقدر أحدٌ قط أن ينقل أنه أكره أحدًا على الإسلام، مثل هذا “[9].
فليس الإكراه مرضيًا ولا شرعيًا، ولا يقبل عند الله إيمانٌ مكرهٍ، وإن جرت به أحكام الإسلام على منتحله، بل هذا عين النفاق الذي حاربه الإسلام وتوعد أهله، فكيف يُغذّي جذوره ويساعد على نشره بين الصف المسلم؟!، وهو أشد خطرًا عليهم من الكفر الصريح كما لا يخفى، فقد سماهم الله بالأعداء: ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾ [المنافقون:4]، يقول الطبري ت 310ه: ” فإن ألسنتهم إذا لَقُوكم معكم وقلوبهم عليكم مع أعدائكم، فهم عين لأعدائكم عليكم “[10]
لذلك جاءت رسالته بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وجاء الرسول بالآيات والبينات والبراهين الواضحات، التي لا ينكرها إلا جاحد، فقال جل وعلا: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ [الحديد:25]، وقال لنبيه: ﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ [البقرة:99]، فكذبه الكثيرون وردوا الحق الذي جاء به الرسول ﷺ من عند الله، فأمهلهم الله – رحمة بهم – ولم يأخذهم كأخذ السابقين، بل أمر بقتالهم وذلك أنفع للكافرينمن أخذهم بعذاب من السماء؛ ” فإنهم قد يؤمنون من الخوف، ومن أُسر منهم وسيم من الصغار يُسلم أيضا، وهذا من معنى قوله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾، قال أبو هريرة: ” وكنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة “، فصارت الأمة بذلك خير أمة أخرجت للناس وأفلح بذلك المقاتلون، وهذا هو مقصود الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهذا من معني كون محمد ما أرسل إلا رحمة للعالمين، فهو رحمة في حق كل أحد بحسبه حتى المكذبين له هو في حقهم رحمة أعظم مما كان غيره، ولهذا لما أرسل الله إليه ملك الجبال وعرض عليه أن يقلب عليهم الأخشبين قال: ” لا استأني بهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له “[11].
ثم إن الشريعة أضافت السيف إلى البيان – وذلك بعد أعوامٍ طوال من الدعوة والجهاد بالقرآن – رجاء إيقاظ المعرضين عن سماع البينات ورؤية الآيات، وأملًا في انتشال المخلدين إلى باطلهم، واسترجاع المصرين على ضلالهم، المستحقين لعقوبة الله ونقمته، فهم أشبه بمن قال فيهم نوح عليه السلام: ﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴾ [نوح:7]، فجاء السيف منبهًا لهم من غفلتهم وموقظًا لهم من رقدتهم ومستنقاذًا لهم من النار، ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال:42]، قال ابن إسحاق ت 151ه: أي: ليكفر من كفر بعد الحجة، لما رأى من الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك[12].
وليس السيف ناسخًا للدعوة والمجادلة بالتي هي أحسن، بل كلاهما لازمٌ لقيام الحجة وظهور الدين، وقد ناقش ابن تيمية ت 728ه ذلك فقال: ” من المعلوم أن القتال إنما شرع للضرورة، ولو أن الناس آمنوا بالبرهان والآيات لما احتيج إلى القتال، فبيان آيات الإسلام وبراهينه واجب مطلقا وجوبا أصليا. وأما الجهاد: فمشروع للضرورة، فكيف يكون هذا مانعا من ذلك؟
فإن قيل: الإسلام قد ظهرت أعلامه وآياته فلم يبق حاجة إلى إظهار آياته، وإنما يحتاج إلى السيف. قيل: معلوم أن الله وعد بإظهاره على الدين كله ظهور علم وبيان وظهور سيف وسنان، فقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة:33]، وقد فسر العلماء ظهوره بهذا وهذا، ولفظ الظهور يتناولهما، فإن ظهور الهدى بالعلم والبيان، وظهور الدين باليد والعمل، والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله.
ومعلوم أن ظهور الإسلام بالعلم والبيان قبل ظهوره باليد والقتال؛ فإن النبي ﷺ مكث بمكة ثلاث عشرة سنة يظهر الإسلام بالعلم والبيان والآيات والبراهين، فآمنت به المهاجرون والأنصار طوعا واختيارا بغير سيف لما بان لهم من الآيات البينات والبراهين والمعجزات، ثم أظهره بالسيف، فإذا وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداء ودفعا، فلأن يجب علينا بيان الإسلام وإعلامه ابتداء ودفعًا لمن يطعن فيه بطريق الأولى والأحرى “[13].
وإنه من المعلوم أن الكثير من هؤلاء المعرضين قد بلغتهم الدعوة وجاءتهم الرسالة فتنكروا لها، استكبرًا على أصحاب الدعوة أو حسدًا لهم إو ضنًا بشيء من حطام الدنيا الفانية أو سيرًا في ركاب المقلدين أو غير ذلك من الموانع النفسية، وليس من عن ضعف البيان أو غياب البرهان أو عدم الحجة، ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ﴾ [الأنعام:149]، أي: ” التامة على خلقه بالكتاب والرسول والبيان “[14]
فجاءت الشريعة بحكمتها ورحمتها فعالجت نفوس النافرين عن الهداية، الجاهلين بمحاسن هذا الدين ودلائل عظمته لإعراضهم، كما قال تعالى: ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء:24]، ثم هم بإعراضهم يدوم جهلهم، ويظلوا في ضلالهم يعمهون، فأرادت الشريعة إخراجهم من هذه الدائرة المغلقة بين الجهل والإعراض، فاستدرجتهم لباحات الإيمان من خلال سياسة متقابلة من التأليف والتذليل، لترويض تلك النفوس المتمردة، وحملها على النظر والتفكر لعلهم يهتدون.
أولًا: سياسة التأليف: فكانت ببذل ما تحبه نفوس بني آدم من الأموال والمنافع، رجاء تأليف قلوبهم على الإيمان، ومنهم أصناف أُخر غير هذا الصنف، لكن هؤلاء هم موضع حديثنا، قال فيهم القرطبي ت 671ه في قوله تعالى ﴿ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ [التوبة:60]، أي من مصارف الزكوات: ” والمشركون ثلاثة أصناف: صنف يرجع بإقامة البرهان، وصنف بالقهر، وصنف بالإحسان، والإمام الناظر للمسلمين يستعمل مع كل صنف ما يراه سببا لنجاته وتخليصه من الكفر “[15]، وهم من قصدهم قتادة ت 117ه بقوله: ” وأما ” المؤلفة قلوبهم: فأناس من الأعراب ومن غيرهم، كان نبي الله ﷺ يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا “[16]، ومن هذا الصنف صفوان بن أمية، فقد أعطاه رسول الله ﷺ يوم حنين مائة من النعم ثم مائة ثم مائة، قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب، أن صفوان قال: “والله لقد أعطاني رسول الله ﷺ ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي”[17].
وقال أنس رضي الله عن ذلك: ” ما سئل رسول الله ﷺ على الإسلام شيئا إلا أعطاه “[18]، وروى أن رجلا سأل النبي ﷺ غنما بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: “أي قوم أسلموا، فوالله إن محمدا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر” فقال أنس: ” إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها “[19]، ولما وجد الأنصار في أنفسهم على رسول الله ﷺ أن أعطى قريشًا وقبائل العرب ولم يعطهم عاتبهم بقوله: ” أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا، تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ “[20]، فهذا هديه فيمن يُرجى إسلامهم بالعطية.
وربما تُعطى لتثبيت قلوب البعض على الإيمان، وهؤلاء من عاتبه البعض في إعطاء جماعة منهم وترك آخرين فقال ﷺ: إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه، خشية أن يكب في النار على وجهه[21]، وكذلك لما بعث علي رضي الله عنه بذهيبة إلى النبي ﷺ قسمها بين الأربعة الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الطائي، ثم أحد بني نبهان، وعلقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، فغضبت قريش، والأنصار، قالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا، قال: ” إنما أتألفهم “[22]، فهذان صنفان تألفت الشريعة قلوبهم على الإيمان ابتداءً أو تثبيتًا، قال ابن رشد ت 520ه: ” واختلف في الوقت الذي بدئ فيه بائتلافهم، فقيل: قبل أن يُسلموا لكي يسلموا، وقيل: بعدما أسلموا كي يحبب إليهم الإيمان “[23]، والظاهر أنهما صنفان منفصلان.
وقد روي عن عبد الرحمن بن عائذ أنه قال: كان النبي ﷺ إذا بعث بعثًا قال: ” تألفوا الناس، وتأنوا بهم، ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل بيت مدر ولا وبر، إلا وأن تأتوني بهم مسلمين أحب إلي من أن تقتلوا رجالهم، وتأتوني بنسائهم “[24].
وقد اختُلف في هذا الحكم هل هو باقٍ بعد عز الإسلام وقيام الدولة؟ أم أن المعنى منه لم يعد متحققًا؟، وقد جاء في مسند الفاروق لابن كثير أن عن عمر -رضي الله عنه- قال: ” إنا لا نعطي على الإسلام شيئًا، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر “[25]، ولكن الصحيح أن ذلك باق ما وجدت الحاجة لذلك، كما قال ابن قدامة ت 620ه في المغني: ” قول الله تعالى: ﴿ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ [التوبة:60]، وهذه الآية في سورة براءة، وهي من آخر ما نزل من القرآن على رسول الله ﷺ. وقد ثبت أن رسول الله ﷺ أعطى المؤلفة من المشركين والمسلمين، وأعطى أبو بكر – رضي الله عنه – عدي بن حاتم، وقد قدم عليه بثلاثمائة جمل من إبل الصدقة، ثلاثين بعيرا.
ومخالفة كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، واطراحها بلا حجة لا يجوز، ولا يثبت النسخ بترك عمر وعثمان إعطاء المؤلفة، ولعلهم لم يحتاجوا إلى إعطائهم، فتركوا ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لسقوطه “[26].
وعلل الصاوي ت 1241ه في حاشيته بقاء ذلك الحكم بقوله: ” وحكمه باق لم يُنسخ؛ لأن المقصود من دفعها إليه ترغيبه في الإسلام لأجل إنقاذ مهجته من النار لا لإعانته لنا حتى يسقط بفشو الإسلام “[27].
وذكر أبو عبيدة القاسم بن سلام ت 224ه علة أخرى لبقاء هذا الحكم في قومٍ ليس لهم همة من الإسلام إلا النَيل، فقال: ” والثالثة أنه ليس بيائس منهم إن تمادى بهم الإسلام أن يفقهوه، وتحسن فيه رغبتهم “[28]، وأما حاجة الأمة لهذا المصرف المالي اليوم فهي أشد ما تكون، والواقع يشهد بذلك[29].
وقد يدخل في ذلك أيضًا إقطاعه ﷺ للبعض تأليفًا على الإسلام، قال أبو يوسف ت 182ه: ” وقد أقطع رسول الله ﷺ وتألف على الإسلام أقواما “[30] وقال أيضًا: ” فقد جاءت هذه الآثار بأن النبي ﷺ أقطع أقواما، .. ورأى رسول الله ﷺ الصلاح فيما فعل من ذلك؛ إذ كان فيه تألف على الإسلام وعمارة للأرض “[31]، وقال أبو عبيدة ت 224ه: ” والمأثور عن سراج أن مجاعة اليمامة أتى رسول الله ﷺ فأقطعه، وكتب له بها كتابا: ” بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب كتبه محمد رسول الله ﷺ لمجاعة بن مرارة بن سلمى: إني أقطعتك الغورة، وغرابة، والحبل، فمن حاجك فإلي “. قال: ثم وفد بعدما قبض النبي ﷺ على أبي بكر فأقطعه الخضرامة أو قال: الخضرمة، ثم قدم على عمر فأقطعه الرياء، ثم قدم على عثمان فأقطعه قطيعة، قال الحارث: لا أحفظ اسمها قال أبو عبيد فكذلك إقطاعه فرات بن حيان وهؤلاء أشراف اليمامة، فأقطعهم من موات أرضهم، بعد أن أسلموا يتألفهم بذلك “[32]، ولعل من ذلك الباب أيضًا ماروي عن علقمة بن وائل، عن أبيه، ” أن النبي ﷺ أقطعه أرضا بحضرموت “[33].
وقد يدخل في التأليف مصالحة بعض الملوك والحكام بالإبقاء على ما تحت أيديهم من الأموال والمنافع، رجاء استجابتهم، وألا يكون حرص أحدهم عليها وخوفه من ذهابها صادًا له عن الإيمان، ومن ذلك أمثلة كثيرة وجدت في مراسلاته ﷺ لهم، كما جاء في مكاتبتهإلى المنذر بن ساوى العبدي عامل كسرى على البحرين: ” أما بعد: فإني أدعوك إلى الإسلام، فأسلم تسلم يجعل الله لك ما تحت يديك، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخفّ والحافر “[34]، والمكاتبة مع هوذة بن علي (شيخ اليمامة): سلام على من اتّبع الهدى، واعلم أنّ ديني سيظهر إلى منتهى الخفّ والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك “[35]، وأخرى إلى جيفر وعبد ابني الجلندى (شيخي عمان): ” فإنكما إن أقررتما بالا سلام وليتكما وإن أبيتما فإن ملككما زايل وخيلي تحل بساحتكما “[36]، وإلى عمير (شيخ من همدان): ” وإنكم إذا شهدتم أن لا إله إلّا الله، وأن محمدا عبد الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، فإنّ لكم ذمّة الله وذمّة رسوله، على دمائكم وأموالكم وأرض البور التي أسلمتم عليها، سهلها وجبلها وعيونها وفروعها، غير مظلومين ولا مضيّق عليكم. “[37] وكتب رسول الله ﷺ لربيعة بن ذي المرحب الحضرمي، وإخوته، وأعمامه: ” إنّ لهم أموالهم ونحلهم ورقيقهم وآبارهم وشجرهم ومياههم وسواقيهم ونبتهم وشراجهم بحضرموت، وكل مال لآل ذي مرحب. “[38]
ومن صورة ذلك الاستعمال في أعمال المسلمين – بعدما تلتمس منهم الأهلية – حرصًا على تأليفهم على الإسلام، وقد جاءت الشريعة بمنع غير المسلمين من ذلك، بل كان ﷺ لا يستعين بمشرك، كما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا اتبع رسول الله ﷺ فقال: أتبعك لأصيب معك، فقال رسول الله ﷺ: ” تؤمن بالله ورسوله؟ “، قال: لا، قال: ” فإنا لا نستعين بمشرك ” قال: فقال له في المرة الثانية: “تؤمن بالله ورسوله؟ “، قال: ” نعم “، فانطلق فتبعه “[39]، فمن أسلم منهم حل له ذلك، وقد روي في مثل ذلك دعوة عمر بن الخطاب لمملوكه النصراني ” وسق ” إلى الإسلام، فكان عمر يقول له: يا وسق أسلم، فإنك لو أسلمت لوليتك بعض أعمال المسلمين، فإنه لا يصلح أن يلي أمرهم من ليس على دينهم، قال وسق: فأبيت عليه، فقال لي: ﴿ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة:256]، فلما مات عمر أعتقني[40]، وجاء عن عمر بن عبد العزيز أنه أرسل كتابًا إلى محمد بن المبشر يقول فيه: أما بعد، فإنه بلغنى أن فى عملك رجلا يقال له حسان يروى على غير دين الإسلام، والله تعالى يقول: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفّارَ أَوْلِياءَ وَاِتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة:57]، فإذا أتاك كتابى هذا فادع حسان إلى الإسلام! فإن أسلم فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به، ولا تأخذ من غير أهل الإسلام على شئ من عمل المسلمين. فقرأ الكتاب على حسّان فأسلم وعلّمه الطهارة والصلاة.[41].
فهذه إشارات لسياسة الترغيب التى انتهجها الإسلام لتأليف قلوب البعض على الإسلام بشيء من المنافع المتحصلة، والتي تفتح نفوسهم لتُبصُّر محاسن هذا الدين، وتزيل ضغائن النفوس التي تمنعهم من مشاهدة عظيم شرعته واستقامة منهجه، والتي كانت لها أكبر الأثر في اعتناق الكثيرين للإسلام وخاصة في أزمنة عز الدين وظهور دولته.
ثانيًا: سياسية الإذلال: وهي لمن أصرّ على الباطل واستكبر عن الدخول في الحق، بدفع الجزية مع الصغار لا عن إقرار على الكفر، بل حقنًا لدمه وإمهالًا لعل الله أن يشرح صدره للإسلام أو يأنف الذل المضروب عليه فينفر منه للإيمان، فيفوز بعز الدنيا والآخرة، لذلك يقول الحصكفي ت 1088ه: ” وهي أي الجزية ليست رضا منا بكفرهم كما طعن الملحدة، بل إنما هي عقوبة لهم على إقامتهم على الكفر، فإذا جاز إمهالهم للاستدعاء إلى الايمان بدونها فبها أولى “[42]،وقال القرافي ت 684ه في مناقشة مقاصد الشرع للجزية وأنها من آثار رحمة الله بعباده: ” سؤال: عادة الشرع دفع أعظم المفسدتين بإيقاع أدناهما وتفويت المصلحة الدنيا لتوقع المصلحة العليا؛ ومفسدة الكفر تُوفي على مصلحة المأخوذ من أموال الكفار جزيةً بل على جملة الدنيا، فلم أقرهم الشرع على الكفر بهذا النزر اليسير؟ ولم لاحتم القتال درءا لمفسدته؟
جوابه: أن هذا من باب التزام المفسدة الدنيا لتوقع المصلحة العليا، وذلك أن الكافر إذا قُتل انسد عنه باب الإيمان ومقام السعادة، فشرع الله تعالى الجزية رجاء أن يُسلم في مستقبل الزمان، ولا سيما مع اطلاعه على محاسن الإسلام، وإن مات على كفره فيتوقع ذلك من ذريته وذرية ذريته إلى يوم القيامة، وساعة من إيمان تعدل دهرا من كفر ولذلك خلق الله تعالى آدم على وفق الحكمة وأكثر ذريته كفار فعقد الجزية من آثار رحمته تعالى “[43]، فما أحكم هذه الشرعة وما أرحمها بالخلق!، وقد نظرت للمآل التعيس الذي ينتظر الهالكين على الكفر، والشقاء الأبدي الذي سيلازمهم، ففرضت عليهم نوعًا من الذل الذي يستفزهم للتفكير بشكل صحيح في جدوى الإقامة على الباطل الذي يعتنقونه، في مقابل رفع الذل عنهم بالدخول في دين الإسلام الحق – هم أو من يأتي بعدهم من نسلهم – والظفر بالعيش الهانئ في ظلال دولته، ثم النجاة من الجحيم الذي لا يُفتّر عنهم في الآخرة، ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران:185]، فيومئذٍ يدرك الواحد منهم أنه لم يلق في دنياه ساعة شقاء ولا بؤس قط، بل ما أسعد مقامه في الذل أو الرق إن كان فيه خلاصه في الآخرة، وما أتسع هؤلاء الذين ماتوا على الكفر ولم تُضرب عليهم الجزية!.
فهي إذًا إمهالٌ لا إقرار، وإذلالٌ لا أجرة مستحقة على المقام في ديار الإسلام كما اختار ذلك البعض، يقول السرخسي ت 483ه موضحًا مقصد الشرع من فرضها وأنها ليست أجرة تُتقاضى منهم: ” والمعنى فيه ما قررنا أن الوجوب عليهم بطريق العقوبة لا بطريق الديون، وعقوبات الكفر تَسقط بالإسلام كالقتل “[44]، وهذا ما ناقشه الجصاص ت 370 ه بقوله: ” ليس موضوع الجزية موضوع الإجارة؛ لأن الإجارة بدلٌ من منافع الشيء المستأجر، وليست الجزية بدلاً من شيء من المنافع، وإنما هي لأجل ترك قتاله فحسب، لقوله تعالى: ﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ﴾ إلى قوله: ﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾، فأخبر أن الجزية مأخوذة بزوال القتال عنهم، وأيضًا: فالذمي متصرف في دارنا في ملكه، فكيف يجب عليه أجرة ملكه؟
وأيضًا: فالأجرة ليست بصغار، والجزية صغار، فإذًا ليست بأجرة، وموضوعها موضوع الصغار، فلا يصح أخذها إلا على هذا الوجه، ومن أجل ذلك قالوا في الذمي إذا أسلم: إنه يسقط عنه خراج رأسه لما مضى إن لم يكن قد أداه، لأن أخذها في هذه الحال لا يجوز على جهة الذل والصغار، لأنه مسلم، فإذًا الجزية الواجبة على وجه الذل والصغار قد سقطت، والإسلام لا يُلزمه جزية أخرى “[45]، وزاد ابن القيم ت 751ه على ذلك وجوهًا فقال: ” قد تبين بما ذكرنا أن الجزية وُضعت صغارًا وإذلالًا للكفار لا أجرة عن سكنى الدار، وذكرنا أنها: لو كانت أجرة لوجبت على النساء والصبيان والزمنى والعميان، ولو كانت أجرة لما أنفت منها العرب من نصارى بني تغلب وغيرهم والتزموا ضعف ما يؤخذ من المسلمين من زكاة أموالهم، ولو كانت أجرة لكانت مقدرةً المدة كسائر الإجارات، ولو كانت أجرة لما وجبت بوصف الإذلال والصغار، ولو كانت أجرة لكانت مقدرة بحسب المنفعة، فإن سكنى الدار قد تساوي في السنة أضعاف الجزية المقدرة، ولو كانت أجرة لما وجبت على الذمي أجرة دار أو أرض يسكنها إذا استأجرها من بيت المال، ولو كانت أجرة لكان الواجب فيها ما يتفق عليه المؤجر والمستأجر، وبالجملة ففساد هذا القول يعلم من وجوه كثيرة “[46].
ويؤكد ابن الهمام ت 879ه على هذا المقصد من الجزية فيقول: ” ولذا أخذت بطريق الإذلال بل هذا ضروري من الدين، فتعين أنها عقوبة على معصية الكفر دنيوية لا بدل معاوضة كما ظنه “[47]، فلم يختلف أحدٌ في اقترانها بالصغار، وقد جاء النص مصرحًا بذلك في قوله تعالى: ﴿ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة:29]، يقول الزيلعي ت 743ه مشبهًا للجزية بالرق في اشتراكهما معنى الذل: ” فكذا وضع الجزية عليهم لأنه استرقاق معنَى، إذ به يلحقه الصغار والذل ويؤدي كسبه للمسلمين ونفقته في كسبه، وأي رق يكون أعظم من ذلك “[48]، ويشير أبو البقاء الشافعي ت 808ه بوضوح لهذه الحكمة السامية المتحصلة من وراء الجزية على هذه الصورة: ” والمعنى فيه: أن الصغار والذل يحملهم على الإسلام مع مخالطة المسلمين الداعية لهم إلى معرفة محاسن الإسلام، ولأن في أخذها معزة لنا وإهانة لهم، وربما يحملهم ذلك على الإسلام “[49]، فهو مقصدٌ سامٍ ونظرٌ نبيل، للتهذيب والتأديب، لا علوًا في الأرض ولا فسادًا.
وأكد ذلك إلكيا الهراسي ت 504ه بقوله: ” فكما يقترن بالزكاة المدح والإعظام والدعاء له، فيقترن بالجزية الذل والذم، ومتى أخذت على هذا الوجه كان أقرَب إلى أن لا يثبتوا على الكفر لما يتداخلهم من الأنفة والعَار، وما كان أقرب إلى الإقلاع عن الكفر فهو أصلح في الحكمة وأولى بوضع الشرع “[50]، ويؤكد ابن حجر ت 852ه ذات المعنى فيقول: ” قال العلماء: الحكمة في وضع الجزية أن الذل الذي يلحقهم يحملهم على الدخول في الإسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الإسلام “[51].
وأما المقصود بالصغار من قول الله عز وجل: ﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ [التوبة:29]، فيقول الشافعي ت 204ه في ذلك: ” فلم يأذن الله عز وجل في أن تؤخذ الجزية ممن أمر بأخذها منه حتى يعطيها عن يد صاغرًا، قال الشافعي: وسمعت عددا من أهل العلم يقولون الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام، قال الشافعي: وما أشبه ما قالوا بما قالوا لامتناعهم من الإسلام، فإذا جرى عليهم حكمه، فقد أُصغروا بما يجري عليهم منه “[52]، وقال في موضع آخر: ” فلم أسمع مخالفًا في أن الصغار أن يعلو حكم الإسلام على حكم الشرك ويجري عليهم “[53].
وأكد ابن حزم ت 456ه ذلك بقوله: ” والصغار هو أن يجري حكم الإسلام عليهم، وأن لا يظهروا شيئا من كفرهم، ولا مما يحرم في دين الإسلام قال عز وجل: ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ﴾ [الأنفال:39] “[54].
وجاء تفسير الصغار في كلام البعض من أهل العلم أنه هيئة مذلّة في جباية المال حين أخذه من أهل الذمة، لكن اعترض النووي ت 676ه عليها بأنها مخترعة لم يرد بها الشرع فقال: ” تؤخذ الجزية على سبيل الصغار والإهانة، بأن يكون الذمي قائما، والمسلم الذي يأخذها جالسا، ويأمره بأن يخرج يده من جيبه، ويحني ظهره ويطأطئ رأسه، ويصب ما معه في كفة الميزان، ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمته: وهي مجتمع اللحم بين الماضغ والأذن من اللحي، وهذا معنى الصغار عند بعضهم، .. قلت: هذه الهيئة المذكورة أولا، لا نعلم لها على هذا الوجه أصلا معتمدا، وإنما ذكرها طائفة من أصحابنا الخراسانيين، وقال جمهور الأصحاب: تؤخذ الجزية برفق، كأخذ الديون، فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة مردودة على من اخترعها، ولم ينقل أن النبي ﷺ ولا أحد من الخلفاء الراشدين فعل شيئا منها مع أخذهم الجزية، وقد قال الرافعي – رحمه الله – في أول كتاب الجزية: الأصح عند الأصحاب: تفسير الصغار بالتزام أحكام الإسلام وجريانها عليهم، وقالوا: أشد الصغار على المرء أن يحكم عليه بما لا يعتقده ويضطر إلى احتماله. والله أعلم. “[55].
وربما يكون ما ذكر من هذه الهيئات في أخذ الجزية خاصٌ بصنفٍ من الذمة امتنعوا عن الصغار المشروع عليهم، فجاءت هذه الهيئات تأكيدًا عليه، لذا يقول ابن القيم ت 751ه: ” والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم لجريان أحكام الملة عليهم، وإعطاء الجزية فإن التزام ذلك هو الصغار. وقد قال الإمام أحمد في رواية حنبل: كانوا يجرون في أيديهم ويختمون في أعناقهم إذا لم يؤدوا الصغار الذي قال الله تعالى: ﴿ وهم صاغرون ﴾ [التوبة:29]، وهذا يدل على أن الذمي إذا بذل ما عليه والتزم الصغار لم يحتج إلى أن يجر بيده ويضرب، وقد قال في رواية مهنا بن يحيى: يستحب أن يتعبوا في الجزية، قال القاضي: ولم يُرد تعذيبهم ولا تكليفهم فوق طاقتهم وإنما أراد الاستخفاف بهم وإذلالهم.
قلت: لما كانت يد المعطي العليا، ويد الآخذ السفلى احترز الأئمة أن يكون الأمر كذلك في الجزية، وأخذوها على وجه تكون يد المعطي السفلى ويد الآخذ العليا “[56].
فالصغار واجب في حقهم بل إن عهدهمم يُنتقض إن خرجوا عن هذا الصغار المضروب عليهم، لأن في ذلك تفويت للمصلحة المرجوة من وراء فرض الجزية، لتتحول إلى صورة من الإجارة والإقرار على الباطل والرضا بالكفر، إذا إن المعنى منه ليس جباية للمال ولا هي أجرة مستحقة كما أسلفنا، يقول البهوتى ت 1051ه: ” وينتقض عهد من أبى من أهل الذمة بذل جزية أو أبى الصغار أو أبى التزام أحكامنا سواء شرط عليهم ذلك أو لا، ولو لم يحكم عليه بها حاكمنا، لقوله تعالى: ﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ [التوبة:29]، قيل الصغار التزام أحكامنا “[57].
ثم إن الإذلال الذي فرضته الشريعة على المعاندين تضمن في نفسه نوعًا من الترغيب والإغراء بالارتفاع من دركات أهل الذل مع الذميين إلى درجات أهل التوقير من المسلمين، وهذا بناءً على الطبقية الإيمانية التي جاءت بها الشريعة العادلة التي لم تساوي بين المؤمن والكافر لا في أحكام الدنيا ولا في منازل الآخرة، وكان لأثر ذلك تحول الكثيرين من غير المسلمين للإسلام رغبًا ورهبًا، حتى ظن البعض أن إسلام هؤلاء إنما هو طمعًا في بعض المكاسب الدنيوية أو تعوذًا من الجزية، فأُثر أن عمر بن عبد العزيز عزل الجراح بن عبد الله الحكمي عن إمرة خراسان، بعد سنة وخمسة أشهر لأنه كان يأخذ الجزية ممن أسلم من الكفار ويقول: أنتم إنما تسلمون فرارًا منها، فامتنعوا من الإسلام وثبتوا على دينهم وأدوا الجزية، فكتب إليه عمر: إن الله إنما بعث محمدا ﷺ داعيًا، ولم يبعثه جابيا[58].
وجاء أنه كتب إلى حيان، عامله على مصر بإلزام أهل الذمة الصغار وألا يُستعملوا في شيء من أعمال المسلمين، فكتب إليه: أما بعد يا أمير المؤمنين فإنه إن دام هذا الأمر في مصر أسلمت الذمة، وبطل ما يؤخذ منهم، فأرسل إليه رسولا وقال له: اضرب حيان على رأسه ثلاثين سوطا أدبًا على قوله، وقل له: من دخل في دين الإسلام فضع عنه الجزية، فوددت لو أسلموا كلهم، فإن الله بعث محمدًا داعيا لا جابيًا[59].
ولهذا المقصد العظيم فإنها تُؤخذ من كل أحدٍ امتنع من الإسلام، ولا تخُص بأهل كتابٍ أو ملة خلافًا لمن ذهب إلى ذلك من أهل العلم، وفي ذلك يقول ابن القيم ت 751ه: ” ومنها: أن الجزية تؤخذ من كل كافر، هذا ظاهر هذا الحديث – يقصد حديث: ” اغزوا باسم الله ” الآنف الذكر – ولم يستثن منه كافرا من كافر، ولا يقال: هذا مخصوص بأهل الكتاب خاصة، فإن اللفظ يأبى اختصاصهم بأهل الكتاب، وأيضا فسرايا رسول الله ﷺ وجيوشه أكثر ما كانت تقاتل عبدة الأوثان من العرب “[60]، وتاريخ المسلمين وواقائعهم الحربية تشهد على ذلك، لذا يقول ابن تيمية ت 728ه: ” وقد تتبعت ما أمكنني في هذه المسألة، فما وجدت لا في كتاب ولا سنة، ولا عن الخلفاء الراشدين الفرق في أخذ الجزية بين أهل الكتاب وغيرهم “[61]، ويؤكد الشوكاني ت 1250ه ذلك فيقول: ” والحاصل أن من ادعى أن طائفة من طوائف الكفار لا يجوز ضرب الجزية عليهم بل يخيرون بين الإسلام والسيف فعليه الدليل، ولا دليل تقوم به الحجة إلا ما ورد في المرتد كما قدمنا “[62].
وأما من امنتع بعد ذلك من قبول الهداية والإسلام وأنف من بذل الجزيلة وآثر القتال والموت على باطله، فإنه لم يُحرم من فرصة آخرى من الإمهال – إن ظفر به المسلمون حيًا ولم ير الإمام قتله أو المفاداة به أو المن عليه – لكن بخطة هي أشد خسفًا من الجزية، وهي الإسترقاق، فيعاقب بسلب ملكية نفسه ليصبح عبدًا عند سيدٍ من المسلمين يتولى خدمته، ثم لعله ينصلح حاله ويذهب كبره ويبصر نور الهداية، يقول السرخسي ت 483ه: ” ثم الاسترقاق على أهل الحرب عقوبة بطريق المجازاة لهم حين أنكروا وحدانية الله فجازاهم على ذلك، بأن جعلهم عبيد عبيده، فإزالته بعد الإسلام يكون حقًا للشرع، ولهذا كانت قربة تتأدى بعض الواجبات بها “[63].
قال السرخسي ت 483ه في توصيفه: ” الاسترقاق عقوبة من حيث تبديل صفة المالكية بالمملوكية، وقد تم ذلك حين استرق فهو عقوبة مستوفاة “[64]، وبفقد المالكية يتحقق فيه نوع من العجز الحكمي، فلا يملك بل يملك ويصبح أشبه بالمال يباع ويشترى، لذا يقول زكريا الأنصاري ت 926ه في الرق بأنه: عجزٌ حكمي يقوم بالإنسان بسبب الكفر[65].
فهي عقوبة مؤبدة، اعتمدتها الشريعة لغاية حكيمة من لدن ربٍ عليم بخلقه، ﴿ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت:10]، لا أنها جاءت بإبطالها جملة كما يظن البعض، أو تدرجت في نسخها كما يردد آخرون، بل هي وسيلة شرعية تأديبية ثابتة ما بقي مصدرها قائمًا وسوقها رائجًا وهو الجهاد، بعد أن أبطلت الشريعة رق الجاهلية بما ارتكن عليه من بغي وظلم وانتصار لقيم فاسدة، فتوعدت المتّجرين بالأحرار واسترقاقهم، كما روي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ، أنه قال: ” قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: منهم: ورجل باع حرًا فأكل ثمنه “[66]، فلم تغلق بابه جملةً، ولكن أبقت منه سبيلًا للحاجة لإصلح نفوس المستكبرين ومداواة أحقاد المعاندين، فمن أسلم منهم كان قمينًا أن يُعتق من العتقاء، فيفوز بالعتق من العبودية في الدنيا ويظفر إن شاء الله بالعتق من النار في الآخرة.
وهذا وجهٌ في تفسير قول الله تعالى: ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران:110]، فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: ” خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام “[67]، ورى مرفوعًا عن رسول الله ﷺ: ” عجِب الله من قومٍ يدخلون الجنة في السلاسل “[68]، وجاء في بعض الروايات: فقلنا: يا رسول الله من هم؟ قال: ” قوم من العجم، يسبيهم المهاجرون فيدخلونهم الإسلام “[69]، يقول العينى ت 855ه: ” أي: خير بعض الناس لبعضهم وأنفعهم لهم من يأتي بأسير مقيدٍ في السلسلة إلى دار الإسلام فيُسلم، وإنما كان خيرا لأنه بسببه صار مسلمًا، وحصل أصله جميع السعادات الدنياوية والأخراوية “[70]، فالخلاص من الرق في الشريعة فردي، لا لكل النوع، وذلك بعد أن تأتي على الواحد منهم دورة التأديب القاسية، ليخرج بها من رقه لهواه وشيطانه، ثم من رقه لبني جنسه فيعتق، أو يموت ذليلًا في قيده على كفره.
ثم إن الاسترقاق والذمة يشتركان في أمرٍ وهو الصغار، وإن كان في الرق أظهر، ومعه سلب الملكية، لذا يقول السرخسي ت 483 في بعض أوجه المقارنة بينهما: ” والاسترقاق والذمة يتقاربان في المعنى؛ لأن في كل واحد من الأمرين إبقاء الكافر على كفره لمنفعة المسلمين في ذلك من مال أو عمل، وفي الجزية معنى الصغار، والعقوبة في حقهم كما في الاسترقاق بل أظهر، والاسترقاق ثابت في حق النساء والصغار، والجزية لا تجب إلا على الرجال البالغين “[71]، ويقول ابن تيمية ت 728ه: ” والرق فيه من الغل ما ليس في أخذ الجزية “[72].
ويضيف ابن الهمام ت 879ه وجهًا، بأن سقوط الجزية بالإسلام بخلاف الاسترقاق فإنه تعلقت به حقوق فلا يسقط بمجرد الإسلام: ” فلا يرد طلب الفرق بين الجزية وبين الاسترقاق إذ كل منهما عقوبة على الكفر، ثم لا يرتفع الاسترقاق بالإسلام، .. وأما الاسترقاق؛ فلأن إسلامه بعد تعلق ملك شخص معين برقبته فلا يبطل به حق المستحق المعين، بخلاف الجزية فإنه لم يتعلق بها ملك شخص معين بل استحقاق للعموم، والحق الخاص فضلا عن العام ليس كالملك الخاص “[73]، ولذا غلظت الشريعة في فرار الرقيق من مواليه، كما جاء عن رسول الله ﷺ أنه قال: ” أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم “[74]، وقوله أيضًا: ” أيما عبد أبق فقد برئت منه الذمة “[75]، وهذا فيه إشارة لأن الإسلام لم يأت مجففًا لمنابع الرق ولكن محددًا مهذبًا لها، فهي تُؤدّي دورًا إيمانيًا هامًا وتلبي احتياجًا ماسًا.
وقد كان هذا الرقيق أول الأمر مالك لأمر نفسه حين عُرض عليه الإسلام وأبى إلا القتال عن باطله والموت من أجله، فمنت عليه الشريعة بالرق عصمةً لدمه بعد إباحته، لكنه سُلب ملك نفسه عقوبة على عناده وكسرًا لكبره وتهذيبا لنفسه، وهذا من أجل صور رحمة الله بخلقه أن يعالج نفوسهم بالذل حتى لا يموتوا على الكفر فستحقوا العذاب الدائم.
ثم إنه بإسلامه يدخل في جملة المرشحين للعتق من الرق، كما شرط ذلك جمهور الفقهاء، حيث جعلوا الإيمان شرط في العتق، فتتحقق بذلك المصلحة المرجوة وترتفع العقوبة المفروضة، وهذا هو الشرط الذي قيد به الشافعي ت 204ه سائر الكفارات التي لم يأت ذكر شرط الإيمان فيها في كتاب الله، كما في آية الظهار، فقال: ” وكان شرط الله تعالى في رقبة القتل إذا كانت كفارة كالدليل والله تعالى أعلم على أن لا يجزئ رقبة في الكفارة إلا مؤمنة، .. وإنما رد الله عز ذكره أموال المسلمين على المسلمين لا على المشركين فمن أعتق في ظهار غير مؤمنة فلا يجزئه وعليه أن يعود فيعتق مؤمنة “[76].
واستدل بحديث معاوية بن الحكم السلمي في جارية له، قال: قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: ” ائتني بها ” فأتيته بها، فقال لها: ” أين الله؟ ” قالت: في السماء، قال: “من أنا؟ ” قالت: أنت رسول الله، قال: “أعتقها، فإنها مؤمنة”[77]، ثم قال الشافعي: في أقل ما يثبت به الإيمان إذا امتُحن: ” وأقل ما يقع به اسم الإيمان على العجمي أن يصف الإيمان إذا أمر بصفته، ثم يكون به مؤمنًا “[78].
وقد جاء وفي نفس المعنى حديث عن الشريد بن سويد الثقفي: أن أمه أوصت أن يعتق عنها رقبة مؤمنة، فسأل رسول الله ﷺ عن ذلك، فقال: عندي جارية سوداء أو نوبية، فأعتقها؟ فقال: ” ائت بها ” فدعوتها، فجاءت، فقال لها: ” من ربك؟ ” قالت: الله، قال: ” من أنا؟ ” فقالت: أنت رسول الله، قال: ” أعتقها، فإنها مؤمنة “[79]
وذكر الماوردي ت 450ه وجوها أُخر في خصوص ذلك بأهل الإيمان دون أهل الكفر فقال: “والثاني: أن الله تعالى أباح استرقاق المشركين إذلالًا وصغارًا، وأمر بالعتق في الكفارة إيجابًا على وجه القربة برفع الذل والاسترقاق، فلم يجز أن يكون المأمور برفع استرقاقه قربة هو المأذون في استرقاقه مذلة.
والثالث: أن عتق الكفارة ثبت على التأبيد، والكافر لا يتأبد لأنه قد يجوز أن ينقض العهد ويلحق بدار الحرب ثم يسبأ فيسرق، وهذا لا يتصور في عتق المسلم فلذلك أجزأ عتق المسلم لأنه متأبد ولم يجز عتق الكافر لأنه غير متأبد “[80]، وهذا ما أكده ابن قدامة ت 620ه بقوله: ” فلا يجزئ فيه الكافرة، ككفارة القتل، والجامع بينهما، أن الإعتاق يتضمن تفريغ العبد المسلم لعبادة ربه، وتكميل أحكامه وعبادته وجهاده، ومعونة المسلم، فناسب ذلك شرع إعتاقه في الكفارة، تحصيلا لهذه المصالح، والحكم مقرون بها في كفارة القتل المنصوص على الإيمان فيها، فيعلل بها، ويتعدى ذلك الحكم إلى كل تحرير في كفارة، فيختص بالمؤمنة، لاختصاصها بهذه الحكمة “[81].
فهكذا تأتي على العبيد دورة التأديب والتهذيب، ليخرج من يخرج منهم وقد صُقل قلبه بالإيمان بعد أن تخلص من أكنة الكفر على قلبه، فمنهم من يعتق مباشرة أو بالمكاتبة أو التدبير أو السراية، أو في عتقٍ واجب بالكفارات والنذور ومصارف الزكاة، أو عتق مندوب حثت عليه الشريعة وأعظمت جزاءه، كما جاء في فضيلة عتق الرقبة المؤمنة مما يدل على علو كعبها، وشرف منزلتها، وجزيل ثوابها، فعن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: ” من أعتق رقبة مسلمة، – وجاء عند مسلم: مؤمنة – أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار، حتى فرجه بفرجه “[82]
ونزل في فضيلتها قوله تعالى: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾ [البلد:11-13]، وعن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، علمني عملا يدخلني الجنة، فقال: ” لئن كنت أقصرت الخطبة، لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة، وفك الرقبة “، فقال: يا رسول الله، أوليستا بواحدة؟ قال: ” لا، إن عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها، (الحديث)[83].
فهذه إشارات موجزة لتعامل الشرع الحكيم مع النفوس المستكبرة، بالبشارة والنذراة والترغيب والترهيب والتأليف والتخويف، لتُخرج الناس من الظلمات إلى النور، ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك:14]، تستخدم معهم الطرق الناعمة لتتسلل إلى القلوب، وتعتمد سياسة النفس الطويل في التأثير، والتراكم المستمر في التغيير، لا إكراهًا في الدين، فهي شريعة رحيمة بالعباد، قدمت سعادة الآخرة الباقية على سعادة الدنيا الفانية، فإنها وإن رأى البعض تضمنها لشيء من القسوة على المخالفين، فهي قسوة شفيق ناصح أمين، كقسوة الأب على ولده الشارد ليرده إلى سواء السبيل، لا يِعدُه ويمنيه غرورًا، فيُرديه إلى سواء الجحيم، بل يصارحه ويأخذ على يديه بكل سبيل هين، لا يُكره عليه ولكن يُساق إليه.
[1] صحيح البخاري: 7416، صحيح مسلم: 17 – 1499، مسند أحمد: 18168
[2] صحيح البخاري: 2125، مسند أحمد: 6622
[3] تفسير الآية للطبري [الأنبياء:107]
[4] صحيح البخاري: 6483، صحيح مسلم: 17 – 2284، مسند أحمد: 7321
[5] انظر تفسير ابن كثير للآية [يونس:99]
[6] انظر تفسير ابن كثير للآية [آل عمران:83]
[7] هداية الحيارى ص 1/238
[8] صحيح مسلم: 3 – 1731، سنن أبي داود: 2612، مسند أحمد: 22978
[9] قاعدة مختصرة ص 132
[10] الطبري في تفسير الآية [المنافقون:4]
[11] جامع الرسائل لابن تيمية ص 2/334
[12] انظر الطبري في تفسير الآية [الأنفال:42]
[13] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ص 235-241
[14] البغوي في تفسير الآية [الأنعام:149]
[15] القرطبي في تفسير الآية [التوبة:60]
[16] الطبري تفسير الآية [التوبة:60]
[17] صحيح مسلم: 59 – (2313)، مسند أحمد: 15304
[18] صحيح مسلم: 57 – (2312)
[19] صحيح مسلم: 58 – (2312)، مسند أحمد: 12051،
[20] مسند أحمد: 11730
[21] صحيح البخاري: 1478، صحيح مسلم: 131 – (150)، مسند أحمد: 1522
[22] صحيح البخاري: 3344، صحيح مسلم: 143 – (1064)، مسند أحمد: 11648
[23] البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة ص2/359
[24] أورده ابن حجر في “المطالب العالية” (9 / 415) برقم: (2019 / 1)، (9 / 415) برقم: (2019 / 2)
[25] ص1/50
[26] ص6/475
[27] بلغة السالك لأقرب المسالك ص 1/660
[28] الأموال ص721
[29] ناقش ذلك الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه ” الفقه الإسلامي وأدلته ” وطرح صورًا لذلك، ( ويمكن إيراد أمثلة واقعية في عصرنا لأحوال المؤلفة .. ) :ص3/2006-2014
[30] الخراج ص 73
[31] الخراج ص 74
[32] الأموال ص 356
[33] سنن أبي داود: 3058، سنن الترمذي: 1381، مسند أحمد: 27239
[34] مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص145
[35] مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص157
[36] مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص161
[37] مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص231
[38] مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص 246
[39] مسند أحمد: 24386، صحيح مسلم: 150 – (1817)، سنن أبي داود: 2732
[40] انظر تفسير سعيد بن منصور للآية [البقرة:256]
[41] كنز الدرر وجامع الغرر للدواداري ص 9/49
[42] الدر المختار شرح تنوير الأبصار وجامع البحار ص341
[43] الذخيرة ص3/454
[44] المبسوط ص 10/81
[45] شرح مختصر الطحاوي ص 7/210
[46] أحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية ص 1/123
[47] فتح القدير ص 6/54
[48] تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ص 3/277
[49] النجم الوهاج في شرح المنهاج ص 9/386
[50] أحكام القرآن ص 4/43
[51] فتح الباري ص 6/259
[52] الأم ص 4/186
[53] الأم ص 4/297
[54] المحلى ص 5/414
[55] روضة الطالبين وعمدة المفتين ص 10/316
[56] انظر أحكام أهل الذمة ص 1/122
[57] شرح منتهى الإرادات ص 1/670
[58] انظر البداية والنهاية ص 9/189
[59] أحكام أهل الذمة ابن القيم ص 1/456
[60] أحكام أهل الذمة ابن القيم ص 1/89
[61] قاعدة مختصرة ص 159
[62] السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار ص973
[63] السرخسي في المبسوط، ص 7/93
[64] المبسوط ص 10/81
[65] أسنى المطالب في شرح روض الطالب ص3/16، قال البُجَيْرَمِيّ في حاشيته على الخطيب: والرق عجز حكمي سببه ذلة الكفر، ص4/449
[66] صحيح البخاري: 2227، سنن ابن ماجه: 2442، مسند أحمد: 8692
[67] صحيح البخاري: 4557
[68] صحيح البخاري: 3010، سنن أبي داود: 2677، مسند أحمد: 8013
[69] مسند البزار: 2780
[70] عمدة القاري ص 18/148
[71] المبسوط ص 10/118
[72] مجموع الفتاوى ص 31/382
[73] فتح القدير ص 6/54
[74] صحيح مسلم: 122 – (68)، مسند أحمد: 19243
[75] صحيح مسلم: 123 – (69)، مسند أحمد: 19155
[76] الأم ص 5/298
[77] صحيح مسلم: 33 – (537)، سنن أبي داود: 930، مسند أحمد: 23762
[78] الأم ص 7/69
[79] سنن أبي داود: 3283، سنن النسائي: 3653، مسند أحمد: 17945
[80] الحاوي الكبير ص 464
[81] المغني ص 9/547
[82] صحيح البخاري: 6715، صحيح مسلم: 21 – (1509)، مسند أحمد: 9441
[83] مسند أحمد: 18647، صحيح ابن حبان: 374