التصنيفات
الإيمان أولًا

تاسعًا:علاج دوافع الانحراف:

تقدم معنا الحديث عن منزلة القلب من الجوارح ودوره في حضانة الإيمان، والحاجة لعلاج أمراضه التي تصد عن الهداية والاستجابة لداعي الشرع، وتحرفه عنه بعد حصول المعرفة والشروع في الالتزام بمقتضياتها وقطع الأشواط في ذلك بل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، وليس شرط ذلك دائمًا أن يكون نتاج قصور الفهم أو نقص بيان أو ضعف حجة، بل يحصل العلم وتقوم الحجة على وجهها وتتخلف الهداية، ” فإذا كان القلب قاسيًا حجريًا، لا يقبل تزكية ولا تؤثر فيه النصائح، لم ينتفع بكل علم يعلمه، كما لا تنبت الأرض الصلبة ولو أصابها كل مطر، وبذر فيها كل بذر.

كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس: ﴿ إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ۝ ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ﴾ [يونس:96-97]، وقال تعالى: ﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ﴾ [الأنعام:111]، وقال تعالى: ﴿ قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ﴾ [يونس:101]. وهذا في القرآن كثير “[1]

ويكون عدم صلاحية المحل للقبول غالبًا لمرضٍ في القلب، فلا تجتمع هذه الأمراض وحصول الفائدة من المعرفة والعلم في مكان واحد، بل إذا عَرضَت للقلب صدّته عن سبيل الله أو أخرته عنه في أخف الأحوال وذلك، وذلك بحسب طبيعة الأدواء وعددها وتداخلها وتمكنها من القلب، فتكون هي المانع الرئيس أو جزء المانع بعض الأحيان، وقد ذكر ابن القيم ت 751هـ في ” المفتاح ” جملة من تلك الموانع، ونحن نستعرض أهمها ونسوق أمثلة لها، فمنها:

أولًا: قيام مانع الكبر؛ وهو المانع الذي كان في قلب إبليس لعنه الله ومنعه من الاستجابة لأمره بالسجود لآدم، وبعد أن كان من المقربين، فأصبح رأس المذؤمين المدحورين، ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة:34]، وهو المانع الذي حال كثيرًا من الأمم السابقة عن الاستجابة لدعوى الأنبياء، كما كان من قوم نوح عليه السلام لما كذبوه، فقال نوحًا في شأنهم: ﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴾ [نوح:7]، وقد كان من كبرهم أنهم احتقروا نوحًا واتباعه فقالوا: ﴿ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴾ [الشعراء:111]، وقالوا: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ﴾ [هود:27].

واستكبر كذلك قوم هود عليه السلام، فقال الله عنهم: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ [فصلت:15]، وكذلك نبي الله صالح وشعيب عليهما السلام كذبهما الملأ الذين استكبروا من قومهم وكانوا مستبصرين بضلالتهم ويحسبون أنهم على شيء.

وغيرهم من  المتكبرين الذين صدهم الكبر وابتغاء العلو في الأرض كما أخبر الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ﴾ [العنكبوت:39]، وقد تحصلت لفرعون وقومه المعرفة بل واستيقنوها في نفوسهم لكن صدهم الكبر عن الإيمان لموسى والدخول في دين بني اسرائيل: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل:14]، وقال الله تعالى عن المكذبين من بني اسرائيل: ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة:87]، فكان الكبر عن متابعة الهدى وإيثاره على الهوى داعيًا لارتكاب أقبح المنكرات بمعاداة أصحاب الرسالات وملاحقتهم بالتنكيل والقتل.

ولم يختلف الأمر في الرسالة الخاتمة، بل كان إعراض الكثير من سادات قريش عن إجابة رسول الله محمد ﷺ – الذي عرف فيهم بصدقه وآمانته – استكبارًا، فقال الله فيهم: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الصافات:35]، وكان من كبرهم احتقار طائفة من أصحاب النبي ﷺ، حين جاء نفرٌ منهم في وفد من أشراف بني عبد مناف، إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءَنا، فإنما هم عبيدنا وعُسَفاؤنا، كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتّباعنا إياه، فأنزل الله تعالى فيهم قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ﴾ [الأنعام:53][2]، وقال الله كذلك عن استكبارهم عن الإيمان بنبيهم: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأحقاف:10]، بل كان عدم الاستكبار عونا لآخرين على الإيمان والإذعان للرسالة، فقال تعالى في حق بعض النصارى: ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [المائدة:82].

ثانيًا: قيام مانع الحسد؛ كما أخبر الله عن صنف من أهل الكتاب، فقال: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة:109]، وقال الله في حسدهم للعرب أن بعث الله منهم نبيًا، ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ [النساء:54]، فكان هذا الحسد صادّا لهم عن الإيمان برسالة النبي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم، بل كما روي عن ابن عباس أن يهودًا كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله ﷺ قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور، أخو بني سلمة يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ﷺ ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله في ذلك من قولهم: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة:89][3].

ومن الحسد أيضًا ما اعترض به بعض المشركون على نبوة محمد ﷺ فقالوا لولا نزّل القرآن على رجل عظيم من مكة أو الطائف، ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ۝ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾ [الزخرف:31-32]، وهو مصداق ما صرح به أبو جهل من الحسد كما روي عنه أنه قال: ” والله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن يمنعني شيء؛ إن بني قصي، قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا السقاية، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا الندوة، فقلنا: نعم، ثم قالوا فينا اللواء، فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب، قالوا: منا نبي، والله لا أفعل “[4]، وجاء عند ابن اسحاق أنه قال: ” تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى تدرك هذه؟! والله لا نؤمن به أبداً “[5]

وممن وقع الحسد في قلوبهم وكان سببا في صدهم، عبد الله بن أبي ابن سلول، ” وكان رأس المنافقين – ورئيس الخزرج والأوس أيضًا، كانوا قد أجمعوا على أن يملكوه عليهم في الجاهلية، فلما هداهم الله للإسلام قبل ذلك، شرق اللعين بريقه وغاظه ذلك جدا “[6]، وكان هذا مما اعتذر به سعد بن عبادة عن بعض أفعاله فقال: ” لقد من الله علينا بك يا رسول الله، وإنا نريد أن نعقد على رأسه التاج ونملكه علينا “[7]

ومنهم كذلك عامر بن الطفيل، وقد قدم على رسول الله ﷺ في قومه ولم يسلم، ” وقد قال له قومه: يا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم. قال: والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش؟ “[8]

ومنهم أمية بن أبي الصلت الذي كان يبشر أبا سفيان بنبي أخر الزمان، فلما بُعث أعرض عنه، فقال له أبو سفيان لما التقى به في الطائف: ” فأين أنت منه يا أبا عثمان؟ فقال: والله ما كنت لأومن برسول من غير ثقيف أبدا “[9]، وقابله أخرى في اليمن فقال له: ” ما يمنعك من اتباعه؟ قال: ما يمنعني إلا الاستحياء من نسيات ثقيف إني كنت أحدثهن أني هو، ثم يرينني تابعا لغلام من بني عبد مناف! “[10]

ثالثًا: قيام مانع الحرص، الذي يسكن في القلب فيطمس بصيرته ويعميه عن الحق، وقد يكون ذلك الحرص على الرياسة والملك؛فيضن بهما مخافة أن يُسلبا منه؛ وهذا كحال هرقل الذي أيقن بنبوة محمد ﷺ وأنه نبي أخر الزمان الذي جاءت به البشارة، وهو القائل لأبي سفيان – رضي الله عنه – قبل إسلامه: ” وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه “[11]، فلما جاءه كتاب النبي ﷺ واستدعى هرقل كبير الأساقفة الذي يصدرون عن أمره، ” فلما قرأ الكتاب قال الأسقف: هو والله الذي بشرنا به موسى، وعيسى الذي كنا ننتظر، قال قيصر: فما تأمرني؟ قال: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه، فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكن لا أستطيع أن أفعل، إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم “[12]

وربما كان حرصًا على شيء من شهوات الدنيا أو المال؛ وهو الذي صد كثيرًا من الأحبار والرهبان عن الإيمان، وفيهم نزل قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [البقرة:174]، ” نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم فلما بعث محمد ﷺ من غيرهم خافوا ذهاب مأكلهم وزوال رياستهم فعمدوا إلى صفة رسول الله ﷺ فغيروها “[13]

ومن هؤلاء، ذلك الذي ضرب الله له مثلًا في كتابه بعد أن آتاه العلم، فحرَفه حرصُه على الدنيا ولذاتها إلى أن انسلخ من دينه لهثًا وراء دنياه، ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ۝ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ [الأعراف:175-176]،

ومن هؤلاء أبو حارثة أحد بني بكر بن وائل، أسقف نصارى نجران وصاحب مدراسهم، وكانوا قد شرفوه فيهم، ومولوه وأخدموه وبسطوا عليه الكرامات، وبنوا له الكنائس، ووفد على رسول الله فيهم، لكنه امتنع من الإيمان به، والسبب في ذلك يوضحه ما رواه كرز بن علقمة أحد إخوة أبو حارثة، حيث قال له: ” والله إنه للنبي الذي كنا ننتظره، فقال له كرز: وما يمنعك وأنت تعلم هذا؟ فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم؛ شرفونا ومولونا وأخدمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى “[14]

وممّن أخرتهم الخمر عن اللحاق بركب المسلمين حتى أدركه الموت على كفره: أعشى بني قيس، فقد خرج إلى رسول الله ﷺ يريد الإسلام فلما كان بمكة أو قريبا منها، اعترضه بعض المشركين من قريش، فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله ﷺ ليسلم، فقال له: يا أبا بصير، إنه يحرم الزنا، فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر ما لي فيه من أرب، فقال له: يا أبا بصير، فإنه يحرم الخمر، فقال الأعشى: أما هذه فو الله إن في النفس منها لعلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا، ثم آتيه فأسلم، فانصرف فمات في عامه ذلك، ولم يعد إلى رسول الله ﷺ[15].

فهذه نماذج لمن صدتهم أمراض القلوب ومنعتهم علل النفوس عن اللحاق بركب النجاة بعدما تبين لهم الحق، لكنهم لم يتشبعوا بالتزكية الإيمانية التي تطهر قلوبهم من تلك الأدران فينتفعوا بالمعرفة وتشرق نفوسهم بهداية الوحي، فيسيروا على نور من الله.

والموانع غير تلك كثيرة، لكن لعلها تدخل في معني الحرص على الشهوات والملذات، أو التقليد للآباء والأجداد، ولعل الكبر والحسد والحرص أبرزها جميعًا وأشدها فتكا بالمرء وصدًا عن سبيل الله، ” ولهذا قيل أول ذنب عُصى الله به ثلاثة؛ الحرص والكبر والحسد، فالحرص من آدم، والكبر من إبليس، والحسد من قابيل حيث قتل هابيل “[16]

وهذه الأمراض ثغرات تدخل منها الشياطين لاجتيال الحنفاء عن الصراط المستقيم، كيف لا وهم يجرون من ابن آدم مجرى الدم من العروق فيطّلعون على ما يخفى عليه من نفسه، ” ومرض القلب خفي قد لا يعرفه صاحبه، فلذلك يغفل عنه، وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه، لأن دواءه مخالف الهوى، وإن وجد الصبر لم يجد طبيباً حاذقاً يعالجه “[17]، وأصحاب هذه الأمراض وإن كثرت منهم العبادة وظهر منهم الاجتهاد على خطر عظيم، فقد يصدهم هذا المانع يومًا ويحرفهم عن سواء الصراط، وكم من عابد عامل لدين الله صيرته غفلته عن تلك المفاسد القلبية أو إهماله لعلاجها ضحيةً لها بعد أن تضخمت وأتت على عقائده فشوهتها وأعماله فأحبطتها، ولذا كان التعوذ من الحور بعد الكور والضلالة بعد الهدى دأب العارفين أسوةً بسيد ولد آم ﷺ، فعن أنس قال: كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول: “يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: “نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء”[18]

وهذا لا يكون إلا باهتمام خاص وتزكية دقيقة ومتابعة مستمرة عمادها الإيمان، وهذا واجب المصلحين تجاه دعوتهم إن راموا طيّب النتائج ودائمها، ” فهكذا أمراض القلب يُحتاج فيها إلى حفظ الصحة ابتداءً، وإلى إعادتها إن عرض له المرض دوامًا، والصحة تُحفظ بالمثل والمرض يزول بالضد، فصحة القلب تُحفظ باستعمال أمثال ما فيها، وهو ما يقوى العلم والايمان من الذكر والتفكر والعبادات المشروعة، وتزول بالضد فتزال الشبهات بالبينات، وتزال محبة الباطل ببغضه ومحبة الحق “[19]


[1]  مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية، دار عالم الفوائد – مكة، ص 1/265

[2]  انظر الطبري في تفسير الآية

[3]  السيرة النبوية لابن هشام، مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، ص1/547

[4]  مصنف ابن أبي شيبة: 35829، دلائل النبوة للبيهقي: 512

[5]  سيرة ابن إسحاق، دار الفكر – بيروت، ص190

[6]  البداية والنهاية، ابن كثير، دار هجر، ص5/14

[7]  البداية والنهاية، ابن كثير، دار هجر، ص4/492

[8]  السيرة النبوية لابن هشام، مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، ص2/568

[9]  البداية والنهاية، ابن كثير، دار هجر، ص3/281

[10]  البداية والنهاية، ابن كثير، دار هجر، ص3/283

[11]  صحيح البخاري: 7، صحيح مسلم: 1773، مسند أحمد: 2370

[12]  المعجم الكبير للطبراني: 4198

[13]  البغوي في تفسير الآية

[14]  المعجم الأوسط للطبراني: 3906

[15]  السيرة النبوية لابن هشام، مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، ص1/ 388

[16]  أمراض القلب وشفاؤها، ابن تيمية، المطبعة السلفية – القاهرة، ص22

[17]  منهاج القاصدين، ابن الجوزي، ص608

[18]  سنن الترمذي: 2140، سنن ابن ماجة: 3834، مسند أحمد: 12107

[19]  أمراض القلب وشفاؤها، ابن تيمية، المطبعة السلفية – القاهرة، ص31

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s