التصنيفات
الإيمان أولًا

ثامنًا:عمق الانحراف وانتشاره:

ثم ها هو واقع المسلمين يشهد على حاجتهم الماسة للعناية بالإيمان تصحيحًا وتأكيدًا، بعد أن غزته أفكار الكفر والإلحاد وضلالات المبتدعة، وانطمست حدود الله واندثرت شرائعه ونُسيت معالمه، كل ذلك في أعقاب فشل الحملات الصليبية العسكرية في الاستقرار ميدانيًا على أرضهم، فلجأت لتسديد الضربات نحو عقائدهم وزعزعة الأصول التي يتحصنون بها، فنالت منهم على حين ضعف وفشو جهلٍ، حتى عمّت وطمّت واتبع فئامٌ كثيرة من المسلمين سنن من قبلهم كما أخبر الصادق المصدوق ﷺ، فتفرقوا شيعًا وتلبسوا بالأهواء فتجارت بهم كما يتجارى الكَلِب بصاحبه، ثم فُتحت لهم النوافذ ونُصّت لهم المنابر وراحوا يبثون في الأمة سمومهم ويبعثون بها سفهاءهم، فاختلط الحق بالباطل على العوام بل على أصحاب العلم.

ولا ينكر أحدٌ خطر هذا الغزو الفكري، ولا يجادل فيه إلا من تشوهت حقيقة الدين في نفسه فلم يعد يفرق بين ما هو إلهي وما هو وضعي، وما هو من الإسلام وما هو من غيره، لكن قد يجادل البعض في حجم انتشار هذا الغزو وتأثيره على دين المسلمين، وربما يرجع ذلك لغياب جهات تتسم بالعدالة ترصد تلك الانحرافات بشفافية وموضوعية، لكني أزعم أن كثرة مظاهره وتنوع صوره تكفي لكل صاحب غَيرة على الدين أن يتنبه لخطره وحاجة الأمة لمواجهته ومعالجة آثاره وتحصين المسلمين ضد أفكاره، بل وتوجيه جهود الأمة للعناية بالعقيدة تعليمًا وتربية وممارسة.

ولذا سنعرض هنا صورًا من هذه الانحرافات العقدية المعاصرة على جهة التنبيه لا الحصر أو الاستيعاب فهذا متعذر، ولن نتطرق لانحرافات الفرق التي خرجت عن عقيدة أهل السنة والجماعة بعد عصر النبوة واستمرت حتى أصبح لبعضها حضور قوي في واقع الانحرافات المعاصرة.

ونبدأ بالقومية التي غزت بلاد المسلمين مع احتضار الخلافة العثمانية أواخر القرن الثامن عشر، وظهور التنظير والمناداة بالقومية العربية، ورواج العزف على وتر العروبة والعربية ردًا على الدعوات لوحدة إسلامية جامعة، وشيطنةً لها باستحضار نموذج الخلافة العثمانية الهزيل، وتوسد حُكم بلاد المسلمين من اعتنق تلك القومية وأصبحوا لها قادة يتنافسون على الفوز بلقب زعيم الأمة العربية، وينشرون أفكارها بين المسلمين وينكلون بكل ما هو إسلامي ليصبح الولاء للعربية فوق أي اعتبار ديني، ثم انكمشت القومية إلى الحدود الاستعمارية الجغرافية لسايكس وبيكو والتي مزقت جسد الأمة وقطعت أوصالها وأعادتها شعوبًا وقبائل بعد أن كانت أمة واحدة يجمعها دين واحد، وصار المواطنة والوطنية هي النسيج الاجتماعي الذي يجمع أبناء كل بلد على اختلاف دياناتهم فكلهم أما القانون سواء، فصار المسلم كغيره في بلاده بل ربما علا عليه النصراني أو اليهودي أو الدرزي أو البهائي أو النصيري أو العلوي باسم حقوق الأقليات، وتمركز الانتماء الوطني حول التراث الشعبي وصار محط الفخر والاعتزاز، وأصبحت الحضارات الكافرة البالية كالفرعونية والبابلية والآشورية تاريخًا يُعاد إحياؤه وتصديره على حساب التاريخ الإسلامي ومفاخره، وأصبح الولاء للبلدان والقوميات، ينتسبون لها ويوالون ويعادون عليها بل يتحاربون فيما بينهم من أجلها، وعادت دعوى الجاهلية جذعة يفوح نتنها على كل لسان، وتوارت رابطة الدين ولم يعد لها ذكرٌ، بل اعتلى عليها كل ولاءٍ ولو للأحزاب السياسية أو الحركات الدينية أو حتى الأندية الرياضية.

وولم يقف زعماء القومية عند استيرادها ونشرها بين المسلمين، بل جاؤوا معها بحزمة من الأفكار الملحدة كالماركسية واللينينية وما يسمى بالاشتراكية، مستغلة حنق الناس على الطبقية والإقطاعية التي عانت منها بلادهم، فراحوا يلهثون خلف سراب جديد ما لبث أن تبدد على حفنة من اللصوص والمستفيدين من ثروات الأمة باسم التحرر ونصرة الفقراء والمظلومين، وما لبثت أن خَفتَ نجمها وطلت الرأسمالية بثوبها المزخرف فركض خلفها آخرون، وضاعت حقوق الفقراء والمساكين بين المنتفعين من الاشتراكية والمتسلطين بالرأسمالية، وهذه النُظم وإن كانت إقتصادية في ظاهرها لكنها تستمد أسسها من مبادئ لا يُقر بها الدين بل هل تعاديه وتحاربه.

ونثني بالعلمانية أو العالمانية، التي زحفت لبلاد المسلمين منذ أوائل القرن التاسع عشر الميلادي قادمة من أوروبا وتوغلت حتى سيطرت وحكمت وأصبحت دينًا يخصع له العباد، ودستورًا يحكمهم بقوانينه ولوائحه، ونظامًا لا يُسمح بالالتفات عنه، وخطابًا دائرًا على مدار اليوم والليلة لإعلام تلك الأنظمة ومؤسساتها، له رموزه وأعلامه وأدواته وبرامجه التأصيلية والميدانية، فتشبعت به عقول الخاضعين لحكمه وتسربت منظومته لأشد المحاربين له؛ فطول الأمد وكثرة الخلطة يضعف نفرة النفوس ويعوّدها على تقبل النتائج والآثار، فغاب حكم الله عن نفوس المسلمين بعد أن طُوي عن بلادهم عقودًا، وأصبح الدين في مُخيلة الكثيرين مجموعة من الشعائر والتعبدات، وانحسر في زاوية ضيقة حتى كمن في المساجد، وتعرض للتنكيل وزج في السجون من رفض الخضوع لدين العالمانية، ولم ينصع لسلطانها.[1]

وجاءت هذه العالمانية مع حزمة واسعة من الضلالات كالليبرالية القائمة على تحرير الإنسان من قيود الأديان والخروج عن حكم الشريعة والخضوع لأهواء النفس وسلطة القوانين الوضعية لا غير، فاهتبلها كل صاحب هوى ونزعة للتحرر من الدين، وفُتحت للرزيلة أبوابٌ وشيدت لها مسارح وحانات، وصارت ملاذَ كل رافض للخضوع لسلطان الدين أن يأوي إلى ركن الحرية الشخصية، ونَفَق شعار الحرية بين شخصيات دينية وجماعات تنادي بحكم الدين – فرارًا من القمع والشمولية التي عانت منها بلاد المسلمين – فأصبح مفهوم الحرية الغريبة بعجره وبجره نداءً لهم وأولوية، وفَتحت هذه الليبرالية الباب لكل زنديق يطعن في الدين ويشوه عقائده باسم حرية الرأي والتعبير وانطلقت أقلامه تفتري وتنشر الفحش محتمية بالليبرالية، التي تساندها الغرب وتعززها في بلاد المسلمين، كل ذلك بلا حسيب ولا رقيب.

وكان من أبرز آثار تلك الدعوات المنحرفة دعوات تحرير المرأة المسلمة، التي غزت بلاد المسلمين في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي واعتبرت الحشمة والحجاب عدوها الأول واتخذت من المساواة وحقوق المرأة شعارًا تنشر به السفور وتجاهر بالرذيلة، فوقع شباب المسلمين قبل فتياتهم فريسة لهذه الدعوات وخرجت بيوت الدعارة والبغاء للعلن بحماية القوانين العالمانية وأصبح جسد المرأة مادة تسويقية للسلع الاستهلاكية، واستُدرج الشباب نحو صنوف من الانحراف الأخلاقي، حتى غزت الإباحية بيوت المسلمين من خلال المواقع الافتراضية وشبكات التواصل الالكترونية، وصار الترويج لها ليل نهار على الفضائيات، وعزف الشباب عن الزواج خاصة مع ضعف ذات اليد والعجز عن الوفاء بما تمليه الأعراف الاجتماعية التي تقصم ظهورهم، واتخذ آخرين من المساواة بين الجنسين مطية لمحاربة التعدد والمطالبة بالمساواة في الميراث، وهُجرت محاضن التربية الأسرية وراحت المرأة تزاحم الرجال في كل شيء خارج البيت فتهدّم بنيان الأسرة، وتفككت أوصالها وارتفعت نسب الطلاق وتراشق الطرفان في ساحات المحاكم الأسرية، وتاه الأبناء بين ذلك، فخرجت أجيالٌ غابت عقولها بألوان المخدرات وصنوف المسكرات.

وأتت في ركاب تلك العالمانية أفكار التغريب والمادية والحداثة والإنسانوية وغيرها من الضلالات التي نبتت في تربة الكفر واستحضرها شرذمة من المنسحقين ليستزرعوها في أرضنا، فأنبتت حشائشاً ترعرعت ووجدت لها متعاطين، وصارت لها مؤسسات وجمعيات رسمية ومؤتمرات وصحف ومنشورات دورية ومنتجات وبرامج يلتحق بها متعاطي تلك الأفكار، كل ذلك بدأ مع حملات الابتعاث في مطلع القرن التاسع عشر واستمر حتى شهد طفرة شديدة مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي فراجت أفكارهم أكثر حتى وصلوا بسمومهم إلى النجوع وبيوت الوبر.

وكان لزامًا لهذه الانحرافات الخطيرة التي اندرست معها معالم العقيدة وتشوهت ثم تشيطنت في نفوس المسلمين أن يتمرد البعض منهم على خالقهم ويرفضوا الخضوع له بأي شكل من أشكال الالتزام، كما أن حالة الانبهار بالمادية الغربية واستيراد الربط بين الفقر والقمع الذي ترزح فيه بلادهم مع الالتزام الديني من الثقافة الغربية، دفعت لظهور الإلحاد ورواجه بين ضعافي الإيمان، ثم أصبح له بين المسلمين منظرين ومدافعين ومنصات تناقش وتحاور وتبث الإلحاد الناعم وتشكك، فزاد عدد المعتنقين له المجاهرين به، بعد أن أمنوا المحاسبة بل وتلقوا أحيانًا الدعم. 

ولا تقل خطورة عن ذلك الاستشراق، والذي نشط كثيرًا خلال القرنين الماضيين دافعًا بمئات الباحثين المتسلحين بالمال والدعم الكامل المدفوع من كنائس النصارى ومعابد اليهود، ليبثوا تشكيكهم في ثوابت الإسلام وتشويههم لمحاسنه تحت غطاء البحث العلمي، وقد غزت تلك الحملات بنشراتها ومؤلفاتها الشباب واستقطبت المئات في عمليات البحث التي تهدف إلى تخريج أجيال لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، وتقليدهم المناصب ومراكز القيادة والتوجيه[2]

ويأتي كذلك على رأس تلك الانحرافات التحول إلى النصرانية من خلال حملات التنصير أو ما يسمى بالتبشير التي بدأت جهوده منذ القرن الثالث عشر الميلادي أو ربما قبل ذلك ولم تتوقف حتى يومنا، مستغلة جهل الكثيرين وحاجة الفقراء والمعوذين فتبتزهم بالخبز والماء لتحولهم لاعتناق ضلالات النصرانية، وتنتهز الكوارث الطبيعية  لتتسربل في ثياب هيئات الإغاثة فتوزع على المنكوبين المساعدات الطبية ومعها نسخ من الأناجيل وكتب التبشير، ولا تدخر فرصة للحركة في تلك المساحات، وترتب ذلك وتتابع من خلال المؤتمرات دورية علنية دولية وإقليمية، وتخرج منها بتوصيات ونتائج وخطط عمل تنشر في مجلات وكتب، وتنفق على ذلك المليارات وتستغل نفوذها الكنسي وشعارات التعايش لتتمدد بأفكارها بين المسلمين، وتفتح لها حكومات العالمانية الطريق فتنشئ  المدارس المسيحية التي تستقبل ضعيفي الإيمان ليخرجوا مسوخًا لا يعرفون دينًا ولا ينتمون إلى ملة، ويدشنون قنوات تلفزيونية وإذاعية ومنصات شبكية تتناول ثوابت الإسلام بالمناقشة والمعارضة وإثارة الشبهات بل والاستهزاء برموز الإسلام، كما تفتح أبوابها للمهاجرين وتغريهم بالتسهيلات ليقعوا فريسة لغسيل الأدمغة وكسر النفوس من خلال سيل العطاءات، والتشجيع على الاندماج في الأنشطة الاجتماعية الكنسية ثم الدينية لينتهي بهم الحال إلى التعميد تحت أجراس الكنائس.[3]

ومن صور الانحراف كذلك التصوف والخرافة التي فتحت لها الحكومات الأبواب وباركتها الأنظمة القمعية في الداخل ونالت رضا الغرب في الخارج، على اختلاف طرقها وتفاوت مشيخاتها في الانحراف ما بين شذلية ورفاعية وتيجانية ونقشبندية وقادرية وختمية وغيرهم الكثير، فملأت أفئدة العوام وساقتهم سوقًا نحو شرك الأضرحة وحج القبور وعبادة الأولياء، واستنزف أصحاب الطرق أموال المغفلين في النذور والقرابين لتلك القبور والزوايا والأضرحة التي انتشرت بالألآف وامتدت على طول الرقعة الإسلامية شرقًا وغربًا، وأضلتهم بصنوف من بدع الأوراد والحلقات والحضرات والرقص والغناء وخلطة النساء، وقبل ذلك شوهت اعتقاداتهم في خالقهم بأفكار الوحدة والحلول والاتحاد، هذا وإن كان التصوف متقدم الظهور والنشأة إلا أنه تطور لاحقًا لصور غالية من الشطح والخرافة والسحر بحثاً عن الكرامة واستجلابًا للولاية الموهومة.

وليست بعيدًة عن ذلك حملات التشيع التي غزت حواضن العالم الإسلامي؛ قديمًا تحت شعار تصدير الثورة وحديثًا تحت لافتة حب آل البيت أو نصرة القضية الفلسطينية ومحور الممانعة، مستفيدة من دعوات الوحدة الإسلامية والتقارب بين السنة الشيعة وتهوين الخلاف بينهما، لتبث سموم الرفض والطعن في القرآن والسنة وسب الصحابة وتروج لزيارة المشاهد وما يصحبها من الشركيات بين العوام، وتحيي اللطميات لتوزع خلالها منتجات القوم، وتفتح الفضائيات التي تتكلم بلسان العرب، وتترجم الكتب لمختلف اللغات وتنفق الملايين على إنشاء المدارس والحسينيات وتقديم المساعدات وخاصة في البقاع الفقيرة وأزمنة النكبات.[4]

وغير ذلك من ضلالات الفرق المنتشرة في ربوع الأمة المسلمة وقد افترقت كما أخبر الصادق المصدوق، ما بين أشعرية وماتريدية وإباضية وزيدية واثنى عشرية وإمامية واسماعيلية ونصيرية وبهائية وقاديانية ويزيدية وأحباش وغيرها، وغير ذلك من مقالات المرجئة والمداخلة والدهرية والنفعية والداروينية والمادية وكلٌ يدعو لنفسه ويبث سمومه في المسلمن.

فهل ينكر أحدٌ بعد ذلك حاجة الأمة العاجلة للعودة للمنبع الصافي والعقيدة النقية التي ترك عليها رسول الله ﷺ أصحابه؟ وتقويم هذه الانحرافات ومدافعة الضلالات بالإيمان، وتحصين المسلمين بنور الوحي وحجة الرسالة الخاتمة من الفتن العقدية التي هي أخطر وأشد عليهم من القتل، كما قال ربنا: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [البقرة:191]، يقول الطبري ت 310هـ: ” وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجعَ عنه فيصير مشركا بالله من بعد إسلامه، أشدُّ عليه وأضرُّ من أن يُقتل مقيمًا على دينه متمسكا عليه، مُحقًّا فيه “[5].


[1]  انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع ص2/679-686

[2]  انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع ص2/687-697

[3]  انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع ص2/665-678

[4]  انظر المزيد في مقالة: التشيع في العالم الإسلامي .. القابلية والمستقبل على موقع المسلم.نت، بتاريخ 1 جمادى الثانية 1434

[5]  الطبري في تفسير الآية

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s