وهي أشد ما تتشوف لها النفوس وتهفو لها الأفئدة، وقد قال اللطيف الخبير عنها: ﴿ وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ﴾، قال ابن عطية ت 564هـ: ” ووصفها تعالى بأن النفوس تحبها من حيث هي عاجلة في الدنيا، وقد وكلت النفس لحب العاجل “[1]، وهذه بشارة خاصة بمن حققوا الإيمان قولًا وعملًا، كما قال الله في ختام الآية: ﴿ نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الصف:13]، فهو الذي يؤهل لنيل الوعد الإلهي بالتأييد، والله وحده منه الحسْب والدفع والمنع والنصرة إن هم نصروه على أهواء أنفسهم ونزغات شياطينهم وأعدوا للكافرين ما تيسر من العدة، قال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد:7]، فيدفع عنهم غائلة الكفر، ويكلؤهم بعينه ويحرسهم في كنفه، وقد خصهم بذلك في قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [الحج:38]، وقال أيضًا في حق المؤمنين: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء:141]، يقول ابن كثير ت 774هـ في تفسير الآية: ” ويحتمل أن يكون المراد أي: في الدنيا، بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [غافر:51-52].”
ويقول ابن القيم ت 751هـ: ” وكذلك النصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: ﴿ إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ﴾ [غافر:51] وقال ﴿ فَأَيَّدْنَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف:14]، فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة فى نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هى بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم وهو من نقص إيمانه.
وبهذا يزول الإشكال الذى يورده كثير من الناس على قوله تعالى: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ [النساء:141]، ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا فى الآخرة، ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا فى الحجة.
والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى، فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور، مكفى، مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته، ظاهرا وباطنا.
وقد قال تعالى للمؤمنين: ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلا تحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران:139]، وقال تعالى ﴿ فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمٌ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد:35]، فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم، التى هى جند من جنود الله، يحفظهم بها، ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم، فيبطلها عليهم، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم إذ كانت لغيره ولم تكن موافقة لأمره. “[2]
وقد سطر الله ذلك الوعد – بقيام أمر الأمة وتمكين دينها – في كتابه العزيز، فقال: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور:55]، ” وهذا وعد من الله لرسوله ﷺ؛ بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي: أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلن بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك وله الحمد والمنة، فإنه لم يمت رسول الله ﷺ حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين، وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها. وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية – وهو المقوقس – وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة، الذي تملك بعد أصحمة، رحمه الله وأكرمه .
ثم لما مات رسول الله ﷺ قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق، فلم شعث ما وهى عند موته، عليه الصلاة والسلام وأطد جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس وآخر إلى أرض الشام، وثالثا إلى بلاد مصر، واستخلف عمر الفاروق، فقام في الأمر بعده قياما تاما، وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان، وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر، وانتزع يده عن بلاد الشام فانحاز إلى قسطنطينة، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله، عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة .
ثم لما كانت الدولة العثمانية، امتدت المماليك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك: الأندلس وقبرص، وبلاد القيروان، وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى، وباد ملكه بالكلية. وفتحت مدائن العراق، وخراسان، والأهواز، وجبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، ولهذا ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: ” إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ” فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فنسأل الله الإيمان به وبرسوله، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا “[3]
ولم يكن هذا الوعد خاصًا بالنبي ومن معه، بل كان عامًا قبل بعثة خاتم الرسل ﷺ، وحتى قيام الساعه، كما قال الله تعالى في شأن ذلك الوعد: ﴿ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾، ” يعني بني إسرائيل، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر وأورثهم أرضهم وديارهم، فقال: ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾، وهكذا كان الصحابة مستضعفين خائفين، ثم إن الله تعالى أمنهم ومكنهم وملكهم، فصح أن الآية عامة لأمة محمد ﷺ غير مخصوصة؛ إذ التخصيص لا يكون إلا بخبر ممن يجب التسليم، ومن الأصل المعلوم التمسك بالعموم “[4].
تنبيه!
وعد الله رسله والعاملين لدينه بنصرٍ في الدنيا قبل الأخرة، وذلك في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم:47]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات:171-173]، وكقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء:105]، ومنها قوله: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة:21]، وقوله: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر:51]، ويقفذ إلى الذهن بعد استعراض هذه الآيات الكثيرة سؤالٌ متكرر يجيب عنه الطبري ت 310هـ فيقول: ” يقول القائل: وما معنى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ وقد علمنا أن منهم من قتله أعداؤه، ومثَّلوا به،كشعياء ويحيى بن زكريا وأشباههما، ومنهم من همّ بقتله قومه، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجيا بنفسه، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقا لقومه، وعيسى الذي رفع إلى السماء إذ أراد قومه قتله، فأين النصرة التي أخبرنا أنه ينصرها رسله والمؤمنين به في الحياة الدنيا؟ وهؤلاء أنبياؤه قد نالهم من قومهم ما قد علمت، وما نصروا على من نالهم بما نالهم به؟
قيل: إن لقوله: ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) وجهين كلاهما صحيح معناه:
أحدهما أن يكون معناه: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا؛ إما بإعلائناهم على من كذّبنا وإظفارنا بهم حتى يقهروهم غلبة، ويذلوهم بالظفر ذلة كالذي فعل من ذلك بداود وسليمان فأعطاهما من المُلْك والسلطان ما قهرا به كل كافر، وكالذي فعل بمحمد ﷺ بإظهاره على من كذّبه من قومه، وإما بانتقامنا ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل ممن كذّبهم وعاداهم، كالذي فعل تعالى ذكره بنوح وقومه من تغريق قومه وإنجائه منهم، وكالذي فعل بموسى وفرعون وقومه إذ أهلكهم غرقا ونجى موسى ومن آمن به من بني إسرائيل وغيرهم ونحو ذلك.
أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذّبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم، كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه، بتسليطنا على قتله من سلطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته وكفعلنا بقتلة يحيى، من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له، وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم، فهذا أحد وجهيه “[5]
فما أحوج العاملين لدين الله الساعين لتمكين دينه إلى إعادة قراءة مفهوم النصر وفق المنهج القرآني، لا وفق المنظومة المادية التي تختصره في صور من العلو الحسي أو التمدد المكاني، وتتجاهل المكاسب الحقيقة التي تتمثل في ظهور الحجة للناس وإقبالهم على دين الله، أو قيام الحجة على الباطل وأفول نجمه في قلوبهم، ولا أدلّ على ذلك مما صار مع أصحاب الأخدود وقد أُبيدت الثلة المؤمنة حرقًا، والكفرة قعودٌ يُلقونهم في النار يشهدون ذلك بدم بارد، وسمى الله عاقبة ما حصّله المؤمنون في الآخرة بالفوز الكبير، رغم أنهم لم يحققوا شيئًا حسيًا في الدنيا، وإنما كان إنتصارًا معنويًا بثباتهم على الإيمان الذي شرح الله صدورهم له؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾ [الربوج:11]، وكذلك ثَبات سحرة فرعون رغم تهديده لهم بالتنكيل الشديد بهم صلبًا وتقطيعًا لأوصالهم، فقال: ﴿ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ [طه:71]، فكان استهزاؤهم بتكنيله عنوان انتصارهم الذي سطره الله في كتابه: ﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه:72]، وكان ثباتهم على الإسلام ووفاتهم عليه هو غاية رجائهم من الله؛ ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ [الأعراف:126]، ويصف لنا القرآن صورة أخرى من صور الظهور التي يظنها المتشبع بالمادية نوعًا من الهلاك، بعد أن ظهر الباطل وطُمس نور الحق لقرون إلى أن بعث الله نبيه ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فيقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف:14]، فالطائفة الكافرة من قالوا أن عيسى هو الله ومن قالوا إنه ابن الله، ” فتظاهرت الطائفتان الكافرتان على المسلمة، فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسًا حتى بعث الله محمدًا ﷺ، فآمنت طائفة من بني إسرائيل، وكفرت طائفة، يعني الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى، والطائفة التي آمنت في زمن عيسى، فأيدنا الذين آمنوا على عدّوهم، فأصبحوا ظاهرين في إظهار محمد على دينهم دين الكفار، فأصبحوا ظاهرين “[6]
وقريبًا من ذلك الوعد لهذه الأمة بأن تظل فيها طائفة باقية ظاهرة على أمر الله لا يضرها من خالفها، ورغم ذلك فقد تجتمع عليهم الغربة حين يعود الإسلام غريبًا كما بدأ، فعُلم أن الظهور هنا هو الثبات على أمر الله وليس شرطه الانتصار الميداني، يقول ابن تيمية ت 728هـ: ” فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا تزال طائفة ممتنعة من أمته على الحق أعزاء لا يضرهم المخالف ولا خلاف الخاذل، فأما بقاء الإسلام غريبا ذليلًا في الأرض كلها قبل الساعة فلا يكون هذا “[7]، فهي غربة نسبية من بقعة لأخرى وفي بعض الشرائع دون كلها، وقد رفع الله عنها سنة الاستئصال، وجعل فيها سنة الاستبدال، ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ﴾ [محمد:38]، فلا تخلو الأمة من قائم بأمر الله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يُقيم حجة الله على خلقه.
فهذه صورٌ اعتبرها الشارع سبحانه وتعالى انتصارات أيضًا، فمن اختصره في التمدد الميداني والعلو الحسي فقد أبعد النعجه وضل عن حقيقة التصور السماوي للصراع بين الحق والباطل، وحقيقة الابتلاء في وجودنا في هذه الحياة؛ ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك:2]، وقال أيضًا: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ﴾ [الأنعام:165]، وطبيعة الدنيا التي لم يجعلها الله خالصة للمؤمنين، بل لولا هوانها عليه ما سقى كافرًا منها شربة ماء، فقال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف:33-35].
ولا يخلو الذكر الحكيم والتاريخ العظيم من صورٍ لذلك النصر الذي تحبه النفوس، ولكن الخطأ في اختصار النصر في صورة ضيقة وإهمال المعاني العظيمة والقيم النبيلة التي تتحقق في نفوس العباد بلا ظهور حسي، فتَلقى الله على التوحيد وذلك الفوزٌ عظيم لو كانوا يعلمون، فمن صور النصر تلك ما حكاه القرآن من قصة أصحاب طالوت الذين كتب الله على أيديهم الظفر ولم يجاوزوا عدة أصحاب بدر؛ فعن البراء رضي الله عنه، قال: ” كنا نتحدث: أن أصحاب بدر ثلاث مائة وبضعة عشر، بعدة أصحاب طالوت، الذين جاوزوا معه النهر، وما جاوز معه إلا مؤمن “[8]، لقد ملأ الله قلوبهم يقينًا في لقائه، فكان هو زادهم في الصبر على طول الاختبار ومشقته، والثبات حين برزوا لجالوت وجنوده: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ [البقرة:251].
ولنختم كلامنا مع القرطبي ت 671هـ في تعليقه على الآيات ملخصًا به واقع زمانه ومتحسرًا على غياب الإيمان الذي صنع النصر لأصحاب طالوت وصنع النصر لأصحاب بدر ويصنع النصر في كل زمان وإن ضعفت العدة وقل العتاد، يقول: ” هكذا يجب علينا نحن أن نفعل! لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا، وفي البخاري: قال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم، وفيه مسند أن النبي ﷺ قال: هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم!.
فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة، قال الله تعالى: ﴿ اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله ﴾، وقال: ﴿ وعلى الله فتوكلوا ﴾، وقال: ﴿ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ﴾، وقال: ﴿ ولينصرن الله من ينصره ﴾، وقال: ﴿ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾، فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا، بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدو شرقًا وغربًا برًا وبحرًا ، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم “.
[1] ابن عطية في تفسير الآية
[2] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان – ابن القيم – مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية ص 2/182-183
[3] ابن كثير في تفسير الآية مختصرًا
[4] القرطبي في تفسير الآية.
[5] الطبري في تفسير الآية
[6] الطبري في تفسير الآية
[7] مجموع الفتاوى، أبو العباس ابن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف – السعودية، ص18/296
[8] صحيح البخاري: 3959، سنن الترمذي: 1598، مسند احمد: 18555