إن تحقيق مقام الإيمان في النفوس تُستجلب به وجوهٌ عديدة من المعونة الإلهية في الدنيا بعد استحقاق النجاة في الآخرة برحمة الله وفضله، وهذه المعونة من فقدها فقد كل شيء، ولو حاز ترسانة الأسباب الماية، ومن حازها كفَتْه وأغنته عن الكثير من الركض خلف تلك الأسباب، وهي تتمثل في رفع الموانع وجلب المنافع للمؤمنين، فبعضها معنوي وبعضها حسي.
فمن تلك الوجوه؛ الدخول في ولاية الله تعالى، والانتساب لجملة أوليائه، والظفر بما يشملهم الله به من الحماية والعناية والكلاءة، ” فإنه تعالى يتولى نصرة أوليائه، ويحبهم ويؤيدهم، فمن عاداهم، فقد عادى الله وحاربه “[1]، كما قال رسول الله ﷺ في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عز وجل: ” إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب “[2]، فمن ذا الذي له طاقة بحرب الله عز في علاه؟!، ومن ذا الذي يستغني عن حماه؟!، وقد كان ﷺ يعلّم أهل بيته دعاء الله – في قنوت الوتر – أن يدخلهم في زمرة أوليائه، بقوله: ” اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت “[3]، فهو الله المتصرف الذي لا يكون في ملكه إلا ما يريد، بيده الأمر من قبل ومن بعد، يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وقد عرفنا الله تعالى أولياءه بأنهم؛ ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يونس:63]، ومن فاز بولايته سبحانه فقد وضع أقدامه على طريق الخلاص من ظلمات الجهل والحيرة والتخبط إلى النور الهداية والسداد؛ فقال تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [البقرة:257]، قال سهل بن عبد الله التستري ت 283هـ: ” أي ولاية الرضا، فهو المتولي لهم بما سبق لهم من هدايته ومعرفته إياهم على توحيده، وذلك لعلمه بتبرئهم من كل سبب إلا من خالفهم، فأخرجوا من الظلمات إلى النور ومن الكفر والضلالة والمعاصي والبدع إلى الإيمان، وهو النور الذي أثبته الحق عزَّ وجلَّ في قلوبهم، وهو نور بصيرة اليقين الذي به يستبصرون التوحيد والطاعة له فيما أمر ونهى، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور:40] “[4]
فالظلمات دركات بعضها فوق بعض، وسبل الشيطان متعددة، وشياطين الإنس لا ينتهون، وتتكاثر شبهاتهم ولا يتوقف التزيين بشهواتهم، ” ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال: ﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ﴾ [الأنعام:153]، وقال تعالى: ﴿ وجعل الظلمات والنور ﴾ [الأنعام:1]، وقال تعالى: ﴿ عن اليمين والشمائل ﴾ [النحل:48]، إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق، وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه “[5]، فكيف الخروج من هذا المدلهمات بغير نور من الله؟ّ.
ومن تلك الوجوه؛ الدخول في جملة المتقين الذين وعدهم الله بمعيته الخاصة من التأييد والنصرة، وذلك في قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ [النحل:128]، وهذه التقوى من ثمار الإيمان وهي نتاج بذور الخوف من الله حين تنبت في القلب، فتورث الإستقامة والفرار من المخالفة والبُعد عن مواطن الشُبه، ليتحقق لها موعود الله للمتقين بتفريج الكُرب وتيسير الأمور وسعة الأرزاق، كما قال ربنا: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق:2]، ” أي: ومن يتق الله فيما أمره به، وترك ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، أي: من جهة لا تخطر بباله “[6]، فتكفيهم التقوى همّ ما يستقبلهم، وحزن ما فاتهم، وقد روى عن رسول الله ﷺ بعد أن ردد تلك الآية أنه قال: ” يا أبا ذر، لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم “[7]، وقال تعالى أيضًا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال:29]، فقال بعضهم في الفرقان: مخرجًا، وقال بعضهم: نجاة، وقال بعضهم: فصلا بين الحق والباطل، وكل ذلك متقارب المعنى، وإن اختلف العبارات عنها[8]، وكذلك جاء في ثمرات التقوى قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق:4]، ” أي: يسهل له أمره وييسره عليه، ويجعل له فرجًا قريبًا ومخرجًا عاجلًا “[9].
فالعجب كل العجب ممن يبتغي رغد العيش وسعة الرزق في غير منهج الله، منخدعًا بزخرف الدنيا الذي يتقلب فيه بعض المعرضين عن شريعة الله وينسى أن سبحانه بيده ملكوت السموات والأرض، يعطيها، وقد أخبر أنها تُلتمس في الإيمان والتقوى؛ فقال: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف:96]، ” أي: تابعنا عليهم المطر والنبات ورفعنا عنهم القحط والجدب “[10]، وكان عين الوعد لأهل الكتاب من قبل؛ ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ [المائدة:65-66]، فهو باقٍ لكل من أقام وجهه للدين القيم استمدادًا ومتابعة لهديه، لا تستخفه الأهواء الكثيرة ولا تلويه عن الاستقامة على شريعة الله، وقد بشر النبي ﷺ بوفرة البركة والخير مرة أخرى في أخر الزمان مع نزول عيسى بن مريم عليه السلام حكمًا عدلًا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، فقال في حديث الدجال الطويل: ” ثم يُقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل، حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس “[11]
فما أحوج الأمة للتعرض لهذا المدد الرباني الذي يُلتمس بإصلاح القلوب وتطهير الأنفس من أدران المعصية وكير الآثام، ولزوم الإستغفار والتوبة من البدع وظن السوء، فيتجدد لها إيمانها ويأتيها الغوث من ربها؛ كما وعد نوح قومه: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [النوح:10-12]، وكما وعد هود قومه: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ [هود:52]، وكذلك وعد محمد ﷺ لقومه: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ [هود:3]، ” فإنكم إذا فعلتم ذلك بسط عليكم من الدنيا ورزقكم من زينتها، وأنسأ لكم في آجالكم إلى الوقت الذي قضى فيه عليكم الموت “[12].
ومن تلك الوجوه؛ إزالة آثار الفساد الذي تظهر في البر والبحر بما تجترحه الأيدي من الذنوب، وما تقترفه الأفئدة من الشرك، كما قال ربنا: ﴿ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم:41]، وقد أخبر الله تعالى عن الإتباط الوثيق بين الفساد والنفاق – الذي هو نقيض الإيمان – في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة:11-12]، يقول الطبري ت 310هـ: ” فكذلك صفة أهل النفاق: مُفسدون في الأرض بمعصِيَتهم فيها ربَّهم، وركوبهم فيها ما نَهاهم عن ركوبه، وتضييعِهم فرائضَه، وشكِّهم في دين الله الذي لا يقبَلُ من أحدٍ عملا إلا بالتَّصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبِهم المؤمنين بدَعواهم غير ما هم عليه مقيمُون من الشّك والرَيب، وبمظاهرتهم أهلَ التكذيب بالله وكُتُبه ورسله على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا، فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها “، فتأمل كيف أن سعيهم بالفساد من حيث لم يشعروا هو أثر النفاق في قلوبهم، بل يُزين لهم نفاقهم بأن ذلك هو عين الإصلاح، فربما كان اختلاط المفاهيم وانقلاب الموازين ليصبح الفساد إصلاحًا والحق باطلًا هو من غشاوة النفاق على الأفئدة، ولا تستقيم موازين العباد وفق مراد الله حتى تطهر قلوبهم من أهوائها ويستقر فيها الإيمان، فتميز الحق من الباطل بنور الله.
وكذلك زوال النعم ونزول النقم بالعباد هو من آثار الانحرافات والذنوب التي كسبتها أيديهم، كما أخبر الله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى:30]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأنفال:53]، ” فأخبر تعالى أنه لا يغيّر نعَمه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغيّر ما بنفسه، فيغيّر طاعةَ الله بمعصيته، وشكرَه بكفره، وأسبابَ رضاه بأسباب سخطه، فإذا غَيَّرَ غُيِّرَ عليه جزاءً وفاقًا، وما ربّك بظلاّم للعبيد، فإنْ غيّر المعصيةَ بالطاعة غيّر الله عليه العقوبةَ بالعافية، والذلَّ بالعز “[13]
ولا أدل على ذلك مما وقع لأهل مكة من زوال النعمة بعد أن جحدوا نبوة رسولٍ جاءهم من أنفسهم، ولم يعتبروا بما سلفهم من الأمم التي لم تكن عنهم ببعيد، بل كانوا يمشون في مساكنهم ولكن زين لهم الشيطان أعمالهم، فقال الله تعالى فيهم: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل:112]، ” ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين، وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله ﷺ حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب الميتة والعهن، وهو الوبر يعالج بالدم، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع “[14]، وكم قص الله علينا في غير موضع من كتابه تَبدل حال المنحرفين المعاندين لتكون لنا منهم العبرة، فهذه سبأ أنعم الله عليهم بالجنان وبالأمان فغيروا فغير الله ما بهم من النعمة، فأبدلهم بالإطعام جوعًا وبالأمن خوفًا؛ ﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ:17]، وتلك عاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وفرعون وهامان وقارون وغيرهم، كلهم بدلوا فبدل الله عليهم.
وعندما تكون هذه الانحرافات في العقيدة فلا شك أنها تكون أسرع إفسادًا وأشد فتكًا بالأمة واستجلابًا للنقم من ربها، فهي أعظم عند الله من جنس المعاصي بأوجه متعددة توجب تخصيص مزيد من العناية بتصحيح الاعتقاد وسد ذرائع الشرك والإحداث في الدين معرفةً وسلوكًا.
فهذه جملة من الوجوه التي يحصّلها المؤمنون بإيمانهم فيرفعوا عنهم تعاسة التيه وشقاء التخبط، وضيق الكربات وضنك الأزمات، وآثار الفساد في الأرض بما كسبت أيديهم، فينعموا في ظلال الهداية، وراحة الإيمان، وسعة الأرزاق، وكل ذلك من فضل الله على عباده المؤمنين.
[1] جامع العلوم والحكم، ابن رجب الحنبلي، مؤسسة الرسالة – بيروت، ص 2/335
[2] صحيح البخاري: 6502، مسند أحمد: 26193
[3] سنن أبي داود: 1425، الترمذي: 464، مسند أحمد: 1727
[4] تفسير التستري – دار الكتب العلمية ص 37
[5] ابن كثير في تفسير الآية
[6] ابن كثير في تفسير الآية
[7] السنن الكبرى للنسائي: 11539، صحيح ابن حبان: 6669، المستدرك على الصحيحين للحاكم: 3819، ووافقه الذهبي
[8] انظر الطبري في تفسير الآية
[9] ابن كثير في تفسير الآية
[10] البغوي في تفسير الآية.
[11] صحيح مسلم: 2937، سنن الترمذي: 2240، مسند أحمد: 17629
[12] الطبري في تفسير الآية
[13] الداء والدواء، ابن قيم الجوزية، دار عالم الفوائد – مكة المكرمة، ص180
[14] البغوي في تفسير الآية