تميزت رسالة الإسلام بعمومها؛ فهي رسالة عامة للجن والإنس، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، من لدن خاتم المرسلين إلى قيام الساعة، وهي رسالة شاملة، لشؤون الدين ومنافع الدنيا، تناولت شرائعُها الدقيق والجليل من حياة الناس؛ حتى رُوي عن سلمان رضي الله عنه أنه، قال: ” قال لنا المشركون إني أرى صاحبكم يعلمكم حتى يعلمكم الخراءة “[1]، وحتى قال أبي ذر رضي الله عنه: ” تركنا رسول الله ﷺ، وما طائر يطير بجناحيه إلا عندنا منه علم “[2]، وقد قال الله تعالى في شأن كتابه الكريم: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل:89]، ففيه ما يحتاجه الناس من أصول الاعتقاد والأمر والنهي وما ينفع الناس في معاشهم ومعادهم، قال الشافعي ت 204هـ: ” فليست تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها “[3].
فكان لزامًا على السّاعين لإقامة صرحٍ لهذا الدين أن يدخلوا فيه كافةً لا يفرطون في شيء منه، فإنه لا يصدق قيامه الذي وعد الله به عباده المؤمنين إلا بامتثال قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ [البقرة:208]، وكأن ” وجه دُعائه إلى ذلك؛ الأمرُ له بالعمل بجميع شرائعه، وإقامة جميع أحكامه وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه “، وفيه أيضًا “ دعاء للمؤمنين إلى رَفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام “[4]، قال ابن كثير ت 774هـ: ” يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله: أن يأخذوا بجميع عُرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك “[5]، ثم بعد ذلك يتوجهون بكل ذلك لله رب العالمين لا يبتغون بها إلا رضاه، ولا يشركون معه فيها غيره، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام:162]، فالحياة والممات والعبادات والمعاملات، كل ذلك من جملة الدين الذي يُبتغى به رضا الله ويلتمس فيه ثوابه.
وقد توعد الله صنفًا من المفرطين في الدخول فيه كافةً؛ بأن كفروا ببعض شرائعه، فتوعدهم بالخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، كما توعد صنفًا من اليهود آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه؛ فقال عز وجل لهم: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة:85]، ولا تخرج أمة المسلمين من هذا الوعيد لعموم اللفظ، وقد رُوي عن الفاروق – رضي الله عنه – في هذا الشأن، أنه قال: ” إن بني إسرائيل قد مضوا، وإنكم أنتم تعنون بهذا الحديث “[6]، وجاء الوعيد لهم كذلك في قول الله تعالى: ﴿ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ﴾ [الحجر:90-91]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ” هم أهل الكتاب الذين فرقوا دينهم، وجعلوا كتاب الله أعضاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض “[7].
وصنفًا آخر كفروا ببعض رسله وما جاؤوا به من شريعة، فتوعدهم الله كذلك، ” كما فعلت اليهود من تكذيبهم عيسى ومحمدًا ﷺ، وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم، وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدًا ﷺ، وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم “[8]، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء:150-151]، فعلم من ذلك أن التسليم لشريعة الله كافة أمر واجب والدخول في بعضها دون بعض اتبعًا للهوى محذور، فيُسَلّم لها في مسائل المعاملات والبيوع والأنكحة والجنايات والقضاء كما يُسلم لها في مسائل العبادات.
وجماع ذلك كله بالإيمان من وجهين:
الأول: أن الأعمال تدخل فيه باعتبارها مكونًا له مع التصديق، فالإيمان ليس هو قول اللسان فقط أو اعتقاد القلب ومعرفة الله فحسب، بل هو مجموع خصالٍ باطنية وظاهرية، علمية وعملية، تعبدية وسلوكية كما أخبر النبي ﷺ عنها، فقال: ” الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون، شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان “[9]، يقول الخطابي ت 388هـ في الحديث: ” بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء له أعلى وأدنى، فالاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبها وتستوفي جملة أجزائها “[10]، وقد بان ذلك جليًا في كلام رسول الله ﷺ لوفد عبد قيس لما قدموا عليه، فقال لهم: ” آمركم بالإيمان بالله، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتعطوا من المغنم الخمس “[11]، فهذه جملة من الشرائع التي تنضوي تحت مسمى الإيمان بمعناه المطلق الذي يشمل أعمال الجوارح عباداتها ومعاملاتها، حيث عرّف بها رسول الله ﷺ الإيمان.
الثاني: أن الأعمال تنتج عنه باعتبارها ثمرة من ثمراته، والإسلام يظهر منه باعتباره لازمًا من لوازمه، فهو الباعث والمحرك لامتثال الأمر واجتناب النهي، ” فعُلم أن القلب إذا صلح بالإيمان؛ صلح الجسد بالإسلام وهو من الإيمان “[12]، وهذا لما بين باطن المرء وظاهره من التلازم، ” والعمل الظاهر هو موجبٌ إيمان القلب ومقتضاه، فإذا حصل إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة “[13].
وكلما ازدادت العناية بأركانه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، انعكس ذلك على تصحيح المعتقدات وترسيخ التصديقات في نفس المسلم، وظهر أثر ذلك بالضرورة على العمل، فإن المرء يترقى في مراتب التصديق كما يترقى في مراتب العمل، ودليل ذلك ” أن نفس التصديق والعلم في القلب يتفاضل باعتبار الإجمال والتفصيل؛ فليس تصديق من صدق الرسول مجملًا من غير معرفة منه بتفاصيل أخباره كمن عرف ما أخبر به عن الله وأسمائه وصفاته والجنة والنار والأمم وصدقه في ذلك كله .. وأن نفس العلم والتصديق يتفاضل ويتفاوت كما يتفاضل سائر صفات الحي من القدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام بل سائر الأعراض من الحركة والسواد والبياض ونحو ذلك “[14]
فلأجل طبيعة هذه الشريعة الشاملة وجب صرف مزيد عناية بالإيمان لتنعكس آثاره وتتمدد في شِعابه المتفرعة في التعبدات القلبية والبدنية، اللازمة والمتعدية، لذلك لما تكلم ابن تيمية ت 728هـ عن العبادة في مفهوم الشرع عرفها بأنها: ” العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله “[15]
ولما كان الإيمان هو الباعث الأول في النفوس على الامتثال لأمر الله اختاره الله نداءً لعباده دون سائر الأوصاف، فناداهم بـ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ في قرابة التسعين موضعًا من التنزيل، وربط بين الاستجابة لأمره وبين الإيمان في عشرات المواضع غيرها؛ كقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾، وكاستحضار إيمانهم الباعث لهم على الالتزام في قوله: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾، أو كقوله: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾، أو كقوله: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾، أو قوله للمؤمنات: ﴿ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾، أو كذكر الإيمان كوصف مؤثر في الامتثال في الكثير من المواضع، ومنها قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [النور:62]، وكقوله: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [النساء:76]، وقوله: ﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ﴾ [إبراهيم:31]، أو قوله: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ﴾ [الجاثية:14]، ويظهر ذلك بوضوح في قوله: ﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [الشورى:26]، وغير ذلك من المواضع الكثيرة في كتاب الله العزيز التي يُثني فيها الله على عباده الذين أمنوا وعملوا الصالحات، فكانت الصالحات ثمرة لإيمانهم ولم يستحقوا وصف الإيمان إلا بأعمالهم، فهما متلازمان.
والسنة النبوية لم تتخلف عن القرآن في ذلك المنهج؛ فتجد استحضار الإيمان في الأمر والنهي كثير، كقوله ﷺ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفعل كذا، ولا يحل لامرء يؤمن بالله واليوم الأخر أن يفعل كذا، أو لا يؤمن من فعل كذا، أو لا يؤمن حتى يفعل كذا، وغير ذلك في السنة كثير.
فلا يَنصر هذه الشريعة ويقيم بُنيانها إلا من أحاطها من جميع جوانبها، من العبادة والسلوك والأخلاق والعقود والعهود والمعاملات والجنايات، فكُلها يحركها ويضبطها نظام عقدي محكم مُصان عن التحرف والتبديل، من لدن حكيم خبير بعباده وما يصلح معاشهم في دنياهم وأخرتهم، فجذور الإيمان ضاربة في أعماق هذه المنظومة الواسعة المتشعبة، فكيف يُرام قيام صرحٍ يحمل اسم هذا الدين ويغفل عن تغذية ورعاية هذه الجذور؟!، فإن رام صلاح الأخلاق وإصلاح ذات البين ورغد العيش ومنعة الجانب وقوة الظهر وأسباب النصر، فلا سبيل لذلك بغير تصحيح الإيمان وترسيخه في النفوس فبها تزكوا، ومن زكّوها انصلحت جميع أحوالهم، ومن دسّوها خسروا جهدهم وجهد من معهم، وضيعوا وقت الأمة في محاولات فاشلة وفوتوا عليها فرصة النهوض من كبوتها.
[1] صحيح مسلم: 262، سنن الترمذي: 16، مسند أحمد: 23703
[2] صحيح ابن حبان: 65، مسند أحمد: 21361
[3] الرسالة، أبو عبد الله الشافعي، مكتبه الحلبي – مصر، ص 19
[4] الطبري في تفسير الآية
[5] ابن كثير في تفسير الآية
[6] الطبري في تفسير الآية
[7] ابن عطية في تفسير الآية
[8] الطبري في تفسير الآية
[9] صحيح مسلم: 35، سنن أبي داود: 4676، مسند أحمد: 9361
[10] معالم السنن، أبو سليمان الخطابي، المطبعة العلمية – حلب، ص 4/312
[11] صحيح البخاري: 7556، صحيح مسلم: 17، مسند أحمد: 2020
[12] مجموع الفتاوى، أبو العباس ابن تيمية، ص 7/10
[13] مجموع الفتاوى، أبو العباس ابن تيمية، ص 10/269
[14] انظر مجموع الفتاوى، أبو العباس ابن تيمية، ص 7/564
[15] العبودية، أبو العباس ابن تيمية، المكتب الإسلامي – بيروت، ص 44