كل محاولة للتصحيح تغفل الجانب الإيماني العقدي – ولا توليه القدر الكافي من الاهتمام والعناية – محكومٌ عليها بالفشل قبل انطلاقها، عقلًا وشرعًا؛ فالإيمان هو المصحح للإرادة، ومتى توفرت القدرة معها صح العمل الناتج عنهما، وإن فسدت إرادة المرء الموجّهة للقدرة لم يقع العمل من الله موقع القبول، فإما أن تنحرف إرادة المرء لنفسه أو للناس أو لا تُستجمع الإرادة على العمل أصلًا لصنوف المُلهيات والصوارف التي تشتّتُها أو الشبه والفتن التي تثبّطها، ومحل هذه الإرادة القلب؛ وذلك مصداق ما أخبر به النبي ﷺ، فقال: ” ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب “[1]، وشبّهه أبو هريرة بالملك مع الجنود فقال: ” القلب ملك وله جنود، فإذا صلح الملك صلحت جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده “[2]، فهو مَلِكها، وهي المنفِّذة لما يأمرها به، القابلة لما يأتيها من هديته، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدُر عن قصده ونيته، وهو المسؤول عنها كلها؛ لأنَّ كل راعٍ مسؤولٌ عن رعيته كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنظرُ في أمراضه وعلاجها أهمَّ ما تنسَّك به الناسكون.[3]، ويقول ابن حجر ت 852هـ مؤكدًا على وحدة المصدر في الانفعال، ودوره في التأثير على الأعمال: ” وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية وبفساده تفسد، وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب والحث على صلاحه “[4]
فهكذا صلاحَ ما في القلب صلاحٌ للجسد؛ فيظهر على لسانه وجوارحه وينطبع أثرًا في عمله وبيته ومجتمعه، وإن فسد ما في قلبه فسد سائر جسده؛ فيظهر نفاقًا يُعرف من فلتات لسانه وإن حاول إخفاءه، ويبدو على جوارحه وإن أمعن في ستره، وتأذّي به من حوله وإن اجتهد في دفعه، ويؤكد ذلك ما رُوي عن رسول الله ﷺ أنه قال: ” لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه “[5]، فاستقامة قلبه بالإيمان استقامة لسائر جوارحه ومنها اللسان بل هو من أعظمها فإنه ترجمان القلب، ” فمتى استقام القلب على معرفة الله، وعلى خشيته، وإجلاله، ومهابته، ومحبته، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكل عليه، والإعراض عما سواه، استقامت الجوارح كلها على طاعته، فإن القلب هو ملك الأعضاء، وهي جنوده، فإذا استقام الملك، استقامت جنوده ورعاياه “[6]
وقد خصّ الشرعُ القلبَ بهذه المنزلة أيضًا لأنه محل الإيمان، والإيمان الذي نقصده يشمل التصديق والتوكل والرجاء والخوف والمحبة والخضوع وغيرها من أعمال القلوب، والتي هي بدورها تربة خصبة ينمو فيها الإيمان ويترعرع ويُزهر وتنضج ثماره، فمتى كان المحل صالحًا أو قابلًا أثمرت فيه شجرة الإيمان، ومتى فسدت التربة بآفات الشهوات والشبهات وجب تطهيرها وتخليتها أولًا لتستقبل بذرة الإيمان نقية طيبة وترفدها بالتغذية النافعة من معاني الإيمان العذبة، حتى يشتد عودها وتستوي على سوقها، فتثمر عملًا صالحاً، نافعًا للمسلمين، وقد ادّعى قومٌ من الأعراب مقامًا من الإيمان لم تبلغه قلوبهم، فقال الله في حقهم: ﴿ وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات:13]، ” فأخبر أن حقيقة الإيمان التصديق بالقلب، وأن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيمانًا دون التصديق بالقلب والإخلاص “[7]، ووصف المنافقين بأنهم: ﴿ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [المائدة:41]، ولما وصف الله فريقًا من المؤمنين زكاهم بقوله: ﴿ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ ﴾ [المجادلة:22]، ” أثبت التصديق في قلوبهم فهي موقنة مخلصة، وقيل: حكم لهم بالإيمان فذكر القلوب لأنها موضعه “،[8] وأكد على تلك الحقيقة رسول الله ﷺ وهو يشير إلى صدره ثلاث مرات قائًلا: ” التقوى ها هنا “[9]، يقول ابن دقيق ت 702هـ: ” وقد عظم الشارع أمر القلب لصدور الأفعال الاختيارية عنه، وعما يقوم به من الاعتقادات والعلوم، ورتب الأمر فيه على المضغة، والمراد المتعلق بها، ولا شك أن صلاح جميع الأعمال باعتبار العلم أو الاعتقاد بالمفاسد والمصالح “[10]
فبالجمع بين المعنيين السابقين نجد أن القلب هو محرك القلوب لأنه محل الإيمان، وهذا ما أشار إليه القرطبي ت 656هـ بقوله: ” وإذا فهمت: أن الإنسان إنما شرَّفه الله تعالى على سائر الحيوان بهذا القلب، وأن هذا القلب لم يُشرّف من حيث صورته الشكلية، فإنها موجودة لغيره من الحيوانات البهيمية، بل من حيث هو مقرّ لتلك الخاصية الإلهية؛ علمت أنه أشرف الأعضاء، وأعزَّ الأجزاء؛ إذ ليس ذلك المعنى موجودًا في شيء منها.
ثم إن الجوارح مسخرة له، ومطيعة، فما استقرَّ فيه ظهر عليها، وعملت على مقتضاه: إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. وعند هذا انكشف لك معنى قوله: (إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله)، ولما ظهر ذلك وجبت العناية بالأمور التي يصلح بها القلب، ليتصف بها، وبالأمور التي تفسد القلب ليتجنبها. ومجموع ذلك علوم، وأعمال، وأحوال. “[11]
ولما عظمت منزلة القلب استحق أن يكون محل نظر الله من العبد، كما أخبر الرسول ﷺ: ” إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم “ وأشار بأصابعه إلى صدره،[12] فالقلب هو محل الإيمان، ومتى تمكن منه لم يضره التلفظ بالكفر تحت لهيب السياط، كما حدث مع عمار – رضي الله عنه – لما جاء شاكيًا ذلك لرسول الله ﷺ، فقال: ما تُركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير قال: ” كيف تجد قلبك؟ “، قال: مطمئن بالإيمان قال: ” إن عادوا فعد “[13]، وروي أنه فيه نزل قوله تعالى: ﴿ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل:106].
ولما عظمت منزلة القلب اعتنت الشريعة بغذائه من معاني التوحيد والعبودية والخضوع والخشية والإخبات والمحبة وغيرها من معاني الإيمان، وبما يحفظ عليه قوته وينمي زكاته ويطيل حياته من آيات القرآن وأوراد الذكر التي يلين معها القلب، والصلوات والزكوات التي تطهره وسائر العبادات التي تضمن سلامته، وحذّرت من الآثام والآفات التي تصيبه والأمراض التي تتسلل له فتفسده، وطول الأمد الذي يقسّيه، والران الذي يعلوه، والغشاوة التي تكسوه، والأكنة التي تحوطه، ثم الأقفال والأختام والطبع الذي يُجعل عليه، فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، ثم دلت الشريعة على ما يطهّره ويصقله من جديد، بالتوبة النصوح والاستغفار والذكر الكثير، ورفع الجهل بسؤال أهل العلم، وتعلّم العلم النافع الذي يورث القلب معرفة الله وخشيته، فبها حياته ونجاته يوم القيامة: ﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء:88-89]، وبها فوزه بوعد الله، ودخوله الجنة: ﴿ هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ﴾ [ق:32-33].
ولما عظمت منزلة القلب صار مرمىً لسهام إبليس، بالغواية والتزيين والجلبة بالوسوسة، حتى يصده عن ذكر الله، وقعد له كل مرصد وجاءه من كل وجه فصده عن الحق وزين له الباطل: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الإسراء:16-17]، وقد أخبرنا الرسول ﷺ عن خطره فقال: ” إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم “[14]، فيخالطها ويعرف منها مواضع التأثير فيأتيها من قبلها، فشرع الله لنا الاستعاذة منه ومن وسوسته في كل حين – وهو الدعاء لطاعته بكلامٍ خفي، يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت [15] – حماية للقلب من آثارها الخبيثة وردًا لكيده بالوسوسة: ﴿ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴾ [الناس:4-5]، وكيده بالهمزات: ﴿ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ﴾ [المؤمنون:97-98]، وكيده بالتحريش بين المسلمين بالنزغات: ﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف:200]، بل إن من كيده إفساد عقائد الناس بتشكيكهم في ربهم وإثارة الشبهات في نفوسهم، فقد قال رسول الله ﷺ: ” يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته “[16]، فلا يزال الشيطان يزين بالباطل ويخدع بالآمال حتى يرتد الناس إلى الكفر بعد الإيمان والضلالة بعد الهدى، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙالشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ ﴾ [محمد:25]
ولما عظمت منزلة القلب صار هدفًا لتشكيك المنافقين وتدليس الزنادقة، مما يبثونه بين آناء الليل لأطراف النهار من الأكاذيب ويثيرونه من الريب ويزرعونه من البدع؛ ليفسدوا توحيد المسلمين، ويزعزعوا إيمانهم، وقد أخبر رسول الله ﷺ فيما يرويه حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه – عن الفتن التي تموج كموج البحر، فقال: ” تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز، مجخيا لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه”[17]، فهي فتن كثيرة متلاحقة تحيط بالقلب حتى يلتبس عليه الحق من الباطل، فإلّم يملك من دروع الإيمان ما يرد به صائل الفتن وقع أسيرًا بين يديها، فملكته وباعته في سوق الأهواء.
فكيف بعد ذلك يغفل المصلحون عن تزكية القلوب وصلاحها؟ والعناية بسلامتها وتطهيرها، وأين يُلتمس الإصلاح في غير صلاح القلوب؟ وهو محل نظر الله وفيه صلاح سائر الجسد!.
فإذا رأيت مجتمعًا منحرفًا عن الجادة أدركت ببداهة العقول واقع الإيمان الصحيح في قلوبهم، فتوجهت له على الفور عناية العارفين، لإصلاح ما فسد وتقويم ما انحراف، فتلك هي أولى خطوات الإصلاح؛ فإنه ” لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معًا حتى تكون حركات أهلها كلها لله، وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده، فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب وإراداته لغير الله تعالى، فسد، وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب. “[18]
[1] أحمد:18374، البخاري:52، مسلم:1599، ابن ماجه:3984
[2] جامع معمر بن راشد – ملحق بمصنف عبد الرزاق، المجلس العلمي بباكستان، ص11/221
[3] انظر إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان، ابن قيم الجوزية، دار عالم الفوائد – مكة المكرمة، ص1/7
[4] فتح الباري، ابن حجر، ص1/128
[5] أحمد: 13071، البيهقي في شعب الإيمان: 8، المعجم الكبير للطبراني: 10553
[6] جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم – ابن رجب الحنبلي – مؤسسة الرسالة – بيروت ص1/512
[7] البغوي في تفسير الآية.
[8] البغوي في تفسير الآية.
[9] صحيح مسلم: 2564، سنن الترمذي: 1927، مسند أحمد: 7727
[10] إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، ابن دقيق العيد، مطبعة السنة المحمدية، ص2/279
[11] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، أبو العباس القرطبي، ص4/496
[12] صحيح مسلم: 2564، سنن ابن ماجه: 4143، مسند أحمد: 7827
[13] المستدرك على الصحيحين: 3362
[14] صحيح البخاري: 2038، صحيح مسلم: 2175، مسند أحمد: 26863
[15] انظر القرطبي في تفسير الآية
[16] صحيح البخاري: 3276، صحيح مسلم: 134، مسند أحمد: 8376
[17] صحيح مسلم: 144، مسند أحمد: 23280
[18] جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم – ابن رجب الحنبلي – مؤسسة الرسالة – بيروت ص 1/212