التصنيفات
الإيمان أولًا

عاشرًا:أوثق رباط للأمة:

لطالما كانت وحدة الصف المسلم هي أول نظر المصلحين وشاغل فكر أكثر الحركات الإسلامية، على اختلاف بينهم في طرق تحقيق ذلك ووسائله وغاية تلك الوحدة ومآلاتها، فقد اتفقت كلمتهم وأجمع رأيهم أن الأمة لن تقوم لهم قائمة أو تنهض لها دولة وهي متنازعة متناحرة، ولكن تفرقت كلمتها وتضاربت آراؤها في المائدة التي ستجتمع الأمة حولها، والميثاق الذي يجمع شتاتها، ولعل ذلك هو أول ما ينبغي تحديده، وأولى ما يجب تقريره قبل الشروع في جمع الكلمة، وتوحيد الصفوف، ولعل الغفلة عن ذلك هو السبب الحقيقي لانفراط عقد الأمة وفشل المحاولات المتعاقبة لجمع شتاتها، مع كثرت دواعي الفرقة وأسباب الشقاق، ومسارعة الأعداء والمتربصين في ذلك.

فتركزت جهود البعض لجمع الكلمة حول روابط الأوطان والقوميات أو مشاريع النجاح ومعالجة المشكلات، والتي طالما تتبدد مع أولى النعرات الطائفية والنزغات القبائلية أو تنفض مع فشل تلك المحاولات والتضييق عليها، فكلها روابط قائمة على المكاسب المادية والمصالح المؤقته، لا تدوم وسريعًا ما تذبل ثمارها ويغيب بريقها الخادع، إلا رباط الدين القائم على الإيمان بالله وابتغاء رضاه لا لمصلحة متحصلة أو منفعة مرجوة، فإنه من الشدة بما يؤهله للبقاء وتجاوز المفرقات والتسامي على أسباب الخلاف، بل عندما يكون ” الله ” جل جلاله هو مرتكز المؤمن في حبه وبغضه وإعطائه ومنعه فذلك علامة الإيمان، بل هو الإيمان في أجلى صوره، يقول ﷺ: ” إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله “[1].

فإن روابط القلوب أوثق من روابط الدماء، والقلوب أوعية الإيمان، فإذا تشبعت به القلوب انصلحت فانصلحت عراها واشتدت حبالها وتأكدت روابطها، ليصبح المؤمنون في مجموعهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، قال النبي ﷺ: ” إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا “ وشبك أصابعه[2]، فهكذا تتلاحم القلوب كما تتلاحم أجزاء البينان وهو ما مثله ﷺ بتشبيك الأصابع، فيقع المرجو وتحصل الفائدة على وجهها الذي تطلبه الشريعة من المؤمنين، يقول القرطبي ت 656ه: ” فإن البناء لا يتم أمره، ولا تحصل فائدته إلا بأن يكون بعضه يمسك بعضا ويقويه، فإن لم يكن كذلك انحلت أجزاؤه، وخرب بناؤه، وكذلك المؤمن لا يستقل بأمور دنياه ودينه إلا بمعونة أخيه ومعاضدته ومناصرته، فإن لم يكن ذلك عجز عن القيام بكل مصالحه، وعن مقاومة مضاده، فحينئذ لا يتم له نظام دنيا ولا دين، ويلتحق بالهالكين[3]

وفي تشبيه أشد وضوحًا لهذا التلاحم المنشود يقول ﷺ: ” ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى “[4]، فهم أعضاء وأجزاء لجسد واحد جماعه الإيمان، كما روي عنه ﷺ: ” إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس “[5]، فترى فيها – بفضل الإيمان – من الترابط بين أفرادها والتضافر في جهودها والتناسق بين حركاتها كما لو كانت جسدًا واحدًا، ينطلق في جهد منظم وفعل دروس لتحقيق أهدافه وبلوغ غاياته، لا تعيقه النزاعات ولا تشتته العصبيات.

لذلك حرص الإسلام على بقاء هذه الرابطة حية قوية، ورأب ما تصدع منها وترميم ما تآكل، وعدم الاستهانة بفساد ذات البين فإنه يأتي على الدين فيستأصله كما يأتي الموسى على الشعر، فعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله ﷺ: ” ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة “، قالوا: بلى، قال: ” صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة “، ويروى عن النبي ﷺ أنه قال: ” هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين “[6]، وقال الله تعالى في شأن الإصلاح بين المؤمنين: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات:10]، وقال قبل ذلك: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ [الحجرات:9]،

كما حرص على تجفيف منابع الشقاق وسد مداخل الفرقة، بتحريم الغيبة والنميمة والسخرية والتباغض وأكل الحقوق، وتأسيس الواجبات وتأكيد الحقوق بين المسلم وأخيه المسلم، من إفشاء السلام والبر والصلة والتزاور والعيادة ومشاركة الأفراح والأتراح وقضاء الحوائج، وغير ذلك مما أكدت عليه الشريعة في نصوص كثيرة جاء بها الكتاب وبينتها السنة، لا يتسع المقام لتفصيلها.

كما جعلت لشريعة الولاية حصرًا بين المؤمنين، وحذرت من اتخاذ غيرهم أولياء من دون المؤمنين، وإن كانت لهم من النسب قرابة أو يُرجى منهم ولايتهم مصلحة، فقال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [التوبة:71]، كما أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، والمنافقين بعضهم أولياء بعض، فإنهم أخوة كما أن المؤمنين أخوة، والاستهانة بهذه الولاية على أساس من الإيمان وتأكيد الأخوة على أصل من الدين فشلُ للأمة وذهاب ريحها، لذا قال تعالى: ﴿ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال:73]، يقول الطبري ت 310ه: ” إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين، تكن فتنة في الأرض “[7].

وجاء النموذج التطبيقي النبوي خير شاهدٍ على نجاح هذا الرباط الإيماني وفعاليته في تجاوز أسباب الفرقة وجمع كلمة أمةٍ مفتتة مزقتها أيام البسوس وداحس والغبراء وحروب الفجار، فأصبحت بعد الذل خير أمة أخرجت للناس، وكان الأوس والخزرج أوضح مثال على ذلك، فبعد العداوة والبغضاء والإحن والثارات التي كان ذروتها القتل والقتال لعشرات السنوات، جمع الله بينهم وألف بالإيمان قلوبهم وجعلهم إخوانًا بعد أن كانوا أعداءً، قال ابن إسحاق: ” كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة، حتى قام الإسلام وهم على ذلك، فكانت حربهم بينهم وهم أخوان لأب وأم، فلم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب ما كان بينهم، ثم إن الله عز وجل أطفأ ذلك بالإسلام، وألف بينهم برسوله محمد ﷺ “[8]، قال الله تعالى مذكرًا وممتنًا عليهم بهذه النعمة: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران:103].

ثم كان من هؤلاء الأنصار الذين كانوا حاضنة المهاجرين من جزيرة العرب فآووهم في ديارهم وواسوهم بأموالهم، وأثنى ربهم عليهم بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر:9]، وقد تبوأ الإيمان قلوبهم كما تبوأت الدور أبدانهم، فضربوا مثالا في الحب والإيثار والإيواء والنصرة، وما ذلك إلا ثمرة الإيمان، حتى قال المهاجرون: ” يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا في كثير، لقد كفونا المئونة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله قال: ” لا، ما أثنيتم عليهم، ودعوتم الله لهم “[9]

ثم اتسعت هذه الرابطة لتشمل قبائل العرب على اختلاف بطونها ولهجاتها وعاداتها وآلهتها، فألف بينهم ووحد وجهتهم لرضا ربهم وتمكين دينهم: ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال:63]، يقول القرطبي ت 671ه: ” وكان تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي ﷺ ومعجزاته، لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عنها حتى يستقيدها. وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين “[10].

ومازال تأكيد رسول الله ﷺ على الحفاظ على هذه الألفة وتمتين أواصرها، والتمسك بجماعة المسلمين عدم الخروج عنها وتفريق كلمتها لأن ذلك ضمان بقاء الرسالة بعده واستمرار بلاغ الدين لمن خلفه، حتى أنه كان في حجة الوداع – حين استنصت الناس – يقول: ” لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض “[11]، ويقول أيَضًا: ” فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا “[12]، ثم ما زالت هذه الرابطة تتمدد بعده حتى اتسعت لغير العرب من العجم شرقًا وغربًا على اختلاف أجناسهم وشعوبهم وألسنتهم وألوانهم فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا تجمعهم رابطة الإيمان، لا فضل بينهم لعربي على عجمي إلا بالتقوى.

فهكذا كان الأساس الذي جمع حوله الرسول ﷺ الناس، وهذا هو الأساس الذي ينبغي أن يجمع عليه الناس في كل زمانٍ، لمن رغب في إنهاض الأمة من كبوتها واسترجاع مكانتها التي بوأها الله لتكون خير أمة، فإنه الأساس الوحيد الذي يتسامى على أسباب الخلاف والتي لن تخلوا منها أمة في زمان، لاسيما أمة بعثت لتخرج الناس كافة من الظلمات إلى النور، فأي شيء يجمع شتاتهم ويلم شملهم إلا الله خالقهم؟!، وأما المنكرون لهذا الحقيقة والراغبون عن الركض خلف سراب الروابط الأرضية والمصالح الوضعية، فإن الواقع المرير والتجارب الفاشلة خير شاهد على تخبطهم وفساد طريقتهم.


[1]  مسند أحمد: 18524،  مصنف ابن أبي شيبة: 34338

[2]  صحيح البخاري: 481، صحيح مسلم: 65 – (2585)، مسند أحمد: 19625

[3]  المفهم لما أشكل من شرح كتاب مسلم ص 6/565

[4]  صحيح البخاري: 6011، صحيح مسلم: 66 – (2586)، مسند أحمد: 18355

[5]  مسند أحمد: 22877، مصنف ابن أبي شييبة: 111

[6]  سنن الترمذي: 2509، سنن أبي داود: 4919، مسند أحمد: 27508

[7]  الطبري في تفسير الآية  [الأنفال:73]

[8]  انظر الطبري في تفسير الآية [آل عمران:103]

[9]  مسند أحمد: 13075، سنن الترمذي: 2487

[10]  القرطبي في تفسير الآية [الأنفال:63]

[11]  صحيح البخاري: 121، صحيح مسلم: 118 – (65)، مسند أحمد: 19167

[12]  سنن الترمذي: 2159، سنن ابن ماجة: 3055،  مسند أحمد: 11762

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s