التصنيفات
متفرقة

من أين نبدأ؟

لم ينتقل رسول الله ﷺ إلى الرفيق الأعلى إلا وقد كمُل الدين وتمت النعمة، ونزلت الآية يوم الحج الأكبر معلنة ذلك: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة:3]، وقد روى أن عمر – رضي الله عنه – بكى لما نزلت، فقال له رسول الله ﷺ: ما يُبكيك؟ قال: يا رسول الله، أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل قط شيء إلا نقص، قال: صدقت[1]، هكذا تفطّن مُلهَم هذه الأمة لسنة النقصان بعد التمام، نقصان يأتي على الدين كله حتى يعود الأمر من حيث بدأ، كما أخبر الصادق المصدوق ﷺ: ” بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء “[2]

وقد كان آخر أمره ﷺ قبل وجعه الذي توفى فيه أن ذهب إلى بقيع الغرقد في جوف الليل فاستغفر لهم، وقال: ” السلام عليكم يا أهل المقابر، ليَهن لكم ما أصبحتم فيه، مما أصبح فيه الناس، لو تعلمون ما نجاكم الله منه!، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع أولها آخرها، الآخرة شر من الأولى “[3]، فكانت بعده كالموج المتلاطم تضرب يمينا وشمالًا، فتحرف وتصرف عن صراط الله المستقيم، إلا بقية من هذه الأمة بشر بها رسول الله ﷺ لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله وهم كذلك.

توفى رسول الله ﷺ وقد ترك دعائم دولةٍ مسلمة شيّد بنيانها مِن بعده خلفاؤه الراشدون على المنهج النبوي، فبلغ مُلكها مشارق الأرض ومغاربها، فأقامت به دينَ الله تبلّغ شرعه وتقيم حكمه أزمنةً، إلى أن جَرت فيها سنة الله لما تسللت لها موارد الانحراف وغزتها عوامل الضعف، فتآكلت وتحللت حتى أعلن سقوطها وإلغائها في 22 رجب 1342ه – 3 مارس 1924م.

لقد كان هذا الإعلان زلزالًا هز أركان الأمة المسلمة، ومثَّلَ ذلك لحظةً فارقة للكثيرين؛ فقد انفرط به العقد الذي اجتمع المسلمون في سلكه لقرون، وسقط البنيان الذي كان يظلهم، وفي ذلك يقول شوقي متحسرًا:

وعلاقة فُصمت عُرى أســــــــــــــــبابها .. كانت أبرّ عــــــــلائق الأرواح

جمعت على البر الحضــــــورَ وربما .. جُمعت عليه ســـــرائر النزّاح

نَظمت صفوف المسلمين وخطوهم .. في كل غدوة جمعة ورَواح[4]

لكنّ هذا البنيان في أواخر عهده كان لا يستر من العُري ولا يقي من البرد، فضلًا عن قيامه بدوره في إقامة دين المسلمين وحراسته، ويبدو ذلك واضحًا في كلام مصطفى صبري ت 1373ه – 1954م أخر شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية حيث يقول: ” ويأبى بنا الحق والإنصاف إلا أن نعترف بأن الحكومة التركية كانت قبل الكماليين والاتحاديين أيضًا لا تمشي تمامًا على الصراط السوي والمنهج الشرعي، بل كانت لا تحكم بما أنزل الله به في كل الأمور، وتقلد الحكومات الزمنية الأوربية.

لكن الحق مع ذلك يأمرنا أن نشهد أولًا بعدم إهمال الشرع وإعمال التقليد مبلغ الحكومات الاتحادية والكمالية، ولا سيما أنها لم يقع منها تصريح بكونها حكومات لا دينية .. “[5]، لقد بلغ الضعف بها مبلغ المقارنة بين الدين واللا دين، لقد أصبح هيكلًا هزيلًا يمثل أمة مفتونة بما عند الغرب من أفكار وقوانين، فخرج رموزها يهللون للإنقلاب الكمالي عليها، ويرحبون بموجات الانحلال والسفور، ويستجيبون لدعوات الانفتاح.

يقول شيخ الإسلام مصطفى صبري أيضًا في معرض المقارنة بعد السقوط: ” ثم ارجع البصر كرتين حتى تهتدي إلى إدراك الفرق بين ما كانت عليه الدولة أعني؛ الدولة المعظَمة الجامعة للسلطنة العثمانية والخلافة الكبرى الإسلامية مقترنة إحداهما بالأخرى – مع ما استتبعته تلك المقارنة التي هي أزهى وأبهى من قران السعدين عند الثقلين، وعادات وملكات دينية وأدبية واجتماعية توارثناهن من أبائنا، وكن كالمشخصات لأمتنا تمتاز بهن، ولكل منهن قيمة عظيمة لا تعدلها فوائد العالم عند أقوام ذوي السجايا الرزينة التي تقوم بها حياة الأمم وتدوم على قدر ما يحظون منها، – وبين ما آلت إليه اليوم، وأعني بها الدولة الصغيرة اللا دينية القومية، كإحدى الدول البلقانية في قطع علاقتها عن ما ضيها العثماني والإسلامي والتشبه بالأمم الغربية في التباعد عن الإسلام لا في حضارتها وانقيادها بإرادة الشعب؛ بل وإنما تُسحق إرادتها تحت إرادتها، وتجتهد أيضًا في إنشاء العصبية الجنسية المبنية على الموهومات والخرافات القديمة المنسية .. “[6]

لقد كان سقوط الخلافة مسألة وقتٍ بعد أن بلغ بها الضعف مبلغه، وكان القوم منذ وقت مبكرٍ أمام مفترق طرق؛ إما العودة نحو الدين أو الانجراف مع الغرب، فمثّل الاتجاه الأول تقارير رُفعت للسلاطين كتبت بيد رموز في البلاط السلطاني، جاء في بعضها: ” إن تطبيق الشريعة الإسلامية وأحكامها بقوة وحزم هو العامل الأساسي في وقف تدهور الدولة وحفظ الأمن ووقف التمردات والفوضى في البلاد، ومن ثم تستطيع الدولة التقاط أنفاسها لتتفرغ لإصلاح نفسها، وإن المسلمين إذا استجابوا لدواعي الشرع بقوة سيرجعون إلى عهد الفتوحات “، لكنّ صوت التغريب كان الأعلى، وغدت الفتنة بما عند أوروبا من مظاهر الحضارة سائقة القوم لاستلهام تجربتها في النهوض، فاستفتحوا بعصر ” زهور شقائق النعمان “، وكانت عاقبتها السقوط والهوان[7].

وما أن آلت للسقوط حتى تضافرت جهود المصلحين للتحرك العاجل لتدعيم هذا الكيان والحفاظ عليه قائمًا، تجاوزًا للحظة الراهنة التي شهدت هجمات عاتية عليه من الداخل والخارج، وربما كان حجم المؤمرات التي حيكت لها وكثرة الأعداء والمتربصين بها مايبرر هذا الاهتمام والتركيز على جمع الكلمة حولها، يمثّل ذلك ما قاله مفتى الديار الموصلية في وقته محمد حبيب العبيدي ت 1383ه – 1963م في رسالة له صدرها بـأن: ” هدفها الوحيد توحيد الكلمة من أهل كلمة التوحيد، رمًّا للصدع ولمًّا للشتات .. “ والتي طبعت عام 1916م، يقول فيها: ” إن الدواء الوحيد للعالم الإسلامي أن يمثل أمة شعارها التوحيد ودثارها الاتحاد، وذلك ما يريد الله، وإن كنت في ريب من هذا فاتل قوله عزت كلمته: ﴿ واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ﴾ [آل عمران:103]، ثم تدبر ما حوله من المؤكدات.

إن ما تضمنته تلك الحكمة البالغة من أسرار السياسة ودقائق الاجتماع قد أثبتته التجارب من قبل ومن بعد، ولا أثر بعد عين، فهذه الأمة الإسلامية لها على ذلك شاهد من نفسها في الطورين من حياتها، إذ أحياها الاتحاد في مبتدئها، وإذ أماتها الشتات في منتهاها، ولن تحيا حتى تعود على ما بدات به “[8]

لكن للأسف لم يصاحب ذلك جهودٌ موازية لعلاج الانحرافات الخطيرة التي دبت في جسد الأمة، وتركزت دعوتهم على الاتحاد وجمع الكلمة والاعتصام حول الخلافة، وكأن الفرقة هي الداء الوحيد والوحدة هي الدواء الناجع، وكيف تتحد الأبدان وقد تفرقت الأرواح في دروب الإنحرافات التي لا تنتهي؟!، كما تساءل شوقي في أحد قصائده التي نظمها في أحد المؤتمرات المطالبة بإحياء الخلافة وذلك بعد عامين من سقوطها:

لم تستقم للقوم خلف عمادهم .. هل تستقيم وهم بغير عماد؟![9]

وتوجهت أنظار آخرين لتجديد هذه الصرح وبعث الروح فيه من خلال تغيير النظام السياسي الذي تقوم عليه دولة الخلافة، وتحويله إلى اللا مركزية لعله يجدد شبابها ويصلح حالها، كما عرض جمال الدين الأفغاني ت 1314ه – 1897م على السلطان عبد الحميد ت 1336ه – 1918م تصورًا لمشروع الدولة اللا مركزية القائمة على مجموعة من الخديويات أو الممالك التي يُقر فيها كل ذي ملك على ملكه لكنها تنتظم من جديد في سلك دولة الخلافة متآكلة الأطراف، فيقول: ” يا مولاي! إن أجزاء السلطنة أخذت تتفكك الجزء بعد الآخر، فصار من الواجب نظم الممالك وأجزاءها بسلك من النظام أوثق وأشد وأحكم ..، فتبدأ بالبعيد منها والمطوع فيها، مثل طرابلس الغرب؛ فتجعلها خديوية، ثم إلى ولايات بغداد فالبصرة فالموصل فتجعلها خديوية.. “، حتى عدد له عشر خديويات، وقال: ”  ثم متى نهضت تلك المقاطعات والخديويات وأخذت نصيبها من الرقي والعمران .. ينهضون نهضة الرجل الواحد للتخلص من ربقة الاستعمار والمستعمرين، ويرجع الشرق للشرقيين “[10]

وتابعه في ذلك ثلة من المصلحين، من أشهرهم تلميذه الشيخ محمد عبده ت 1323ه – 1905م، والشيخ محمد رشيد رضا ت 1354ه – 1935م، وعبد الرحمن الكواكبي ت 1355ه – 1902م، فتوجهت أقلامهم من خلال المقالات والمراسلات وتأسيس المجلّات، وجهودهم بإنشاء الروابط والجمعيات والأحزاب وعقد المؤتمرات للدعوة إلى أشكال من الإصلاح الإداري واللا مركزية والتجديد الذي يتماشى مع روح العصر، والحث على نبذ التقليد مع التمسك بقواعد الدين وتهذيب الأخلاق ونبذ الفرقة، والاعتصام بالوحدة الإسلامية.[11]

ووقد عرض الشيخ محمد رشيد رضا ت 1354ه – 1935م هذه القضية في كتابٍ ألفه تحت عنوان ” الخلافة ” فقال فيه: ” فالذي نراه بعد طول الرؤية والنظر في المسألة من الوجهتين الإسلامية والاجتماعية أن ما قرروه بادي الرأي – يقصد ما سماه بالقوة العسكرية الهادمة التي ألفت حكومة الجمهورية التركية – يجب أن يكون تدبيرًا مؤقتًا، لا أمرًا مبرمًا مؤبدًا، وأن تترك السلطة العسكرية أمر الحكومة بعد الصلح إلى مجلس منتخب  من الشعب ينتخبه بحرية حقيقية، لا سيطرة عليها للحكومة ولا للجندية، وأن يترك أمر الخلافة إلى الشعوب الإسلامية كلها، والحكومات المستقلة وشبه المستقلة منها، وأن يؤلف له لجنة أو جمعية مختلطة حرة مركزها الآستانة تدرس كل ما يكتبه ويقترحه أهل العلم وأهل الرأي في المسألة، ويكون ذلك تمهيدا لعقد مؤتمر إسلامي يعقد بعد الصلح بسنة أو أكثر من سنة. “[12]

وقال في موضع آخر متحدثًا عن الفرص: ” إن أعظم مظاهر هذه الفرصة نهضة الشعب التركي من كبوته، التي قضت على السلطنة العثمانية، وتوثيقه عرى الإخاء بين الدولتين الإيرانية والأفغانية، وبثه دعوة الاعتصام مع سائر الشعوب الإسلامية الأعجمية، ونجاحه في إلغاء الامتيازات الأجنبية، والنقص من سائر القيود والأغلال السياسية والمالية، وفرجاؤنا فيه أن يشد أواخي الإخاء مع الأمة العربية ويتعاون معها على إحياء المدنية الإسلامية، بتجديد حكومة الخلافة على القواعد المقررة في الكتب الكلامية والفقهية، وأن لا يرضى بما دون ذلك من المظاهر الدنيوية، ولا يعتر بتحبيذ عوام المسلمين لما قرره في أمر الخلافة الروحية..”[13]

وظهرت في الميدان جمعيات وحركات تنادت لإقامة وحدة للأمة من جديد، متسلحين في ذلك بالإيمان ومتعاهدين على العمل الدؤوب وبذل الغالي والنفيس لتحقيق هذا الهدف، فكانت جماعة الإخوان المسلمون، والتي يقول مؤسسها حسن البنا ت 1368ه – 1949م في رسالة المؤتمر الخامس وهو يضع خطوات عملية لا ستعادة الحلم المنشود: ” والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات :

لا بد من تعاون تام ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها، يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات، وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد، وإن المؤتمر البرلماني الإسلامي لقضية فلسطين ودعوة وفود الممالك الإسلامية إلى لندن للمناداة بحقوق العرب في الأرض المباركة لظاهرتان طيبتان وخطوتان واسعتان في هذا السبيل، ثم يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية، حتى إذا تم ذلك للمسلمين نتج عنه الاجتماع على (الإمام) الذي هو واسطة العقد، ومجتمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظل الله في الأرض .”

وتعامل البعض بواقعية  أكثر بعد إعلان السقوط، ففكر في إيجاد نظام سياسي بديل أكثر ملائمة للواقع يكون مرحلة مؤقتة لاستعادة الخلافة في نهاية المطاف، كما دعا الدكتور السنهوري باشا ت 1391ه – 1971م، فقال: ” .. بما أنه يستحيل اليوم تصور إقامة نظام الخلافة الراشدة أو الكاملة، فلا مناص من إقامة حكومة إسلامية ناقصة وذلك على أساس حالة الضرورة، للظروف التي يمر بها العالم الإسلامي حاليًا.

وهذا النظام الإسلامي الناقص يجب اعتباره نظامًا مؤقتًا، وهدفنا المثالي هو السعي إلى العودة مستقبلًا للخلافة الراشدة ( الكاملة ) “[14]

لقد كانت كلها تحركات سياسيًا بالدرجة الأولى، واستعانة بإيمانٍ شابَه الكثير من دخن الانحراف – الذي أصاب الأمة كلها إلا من رحم الله – لمشروع جليل؛ يجمع المسلمين، ويبني على المشترك من حب الدين والرغبة في البذل له، يغض طرفه عن الاختلاف الفقهي والمذهبي بل حتى الديني، فيجمع تحت لوائه أفئدة شربت من السنة مع أخرى استقت من البدع والاستشراق أو الكلام والفلسفة أو الحداثة والتغريب وحتى من التوراة والإنجيل؛ فكل الجهود مطلوب تضافرها لبناء هذا الكيان الجامع الذي يستظل به الجميع، فنتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، كما تخيلوا.

لم تخل أدبيات المصلحين من الحديث عن العقيدة ودورها، لكنها لم تكن محور الاهتمام الرئيس، وكانت لغيرهم أدوار في محاربة ما انتشر من البدع والخرافة ومحاربة مظاهر الرذيلة والانحلال الديني والأخلاقي، كما كان من جمعية الشبان المسلمين التي كان رشيد رضا أحد أبرز مؤسسيها وتبنت منهجه في الإصلاح، وجمعية أنصار السنة المحمدية التي أسسها الشيخ حامد الفقي ت 1378ه – 1959م، أحد تلاميذ رشيد رضا، ولكنها أدوار ضعيفة محددة سطحية غير شاملة أو منظمة[15].

وليس فيما سقته استقصاءً للجهود المبذولة في الإصلاح في تلك الحقبة أو ادّعاءً لخلو الزمان من المصلحين على بصيرة، ولكنها مجرد إشارة لغفلة الكثيرين عن الطريق الصحيح والمنهج الأقوم لإخراج الناس من التيه في سبل الشيطان إلى  سبيل الله المستقيم.

لقد أدرك آخرون أن العقيدة بحاجة أولًا إلى قدر كبير من التصحيح، وأن هذ البنيان المأمول لا بد أن يشيد من جديد على قواعد إبراهيم، ولا بد في ذلك من العودة إلى المعِين النبوي الصافي الذي ارتشف منه الجيل الأول، حتى تعود الخلافة سيرتها الأولى.

فمن هؤلاء سيد قطب ت 1385ه – 1966م والذي يقول في معالمه مؤكدًا على ضرورة العناية بالإيمان لبلوغ الثمرة المرجوة في التغيير: ” كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو القرآن .. ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده، فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد، ثم ما الذي حدث، اختلطت الينابيع! صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم، وأساطير الفرس وتصوراتهم. وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات. واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم، وعلم الكلام، كما اختلط بالفقه والأصول أيضًا، وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدًا.

وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملاً أساسيا من عوامل ذلك الاختلاف البيِّن بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد. “[16]

لقد تعطلت حاسة البعض عن إدراك حجم الانحراف، ربما مكابرة، أو ربما لجهلهم بطبيعة ذلك المعِين الأول وحقيقته، وكان أمثلهم طريقة من يحصره في شيء من السلوك والأخلاق، أو مما يسع الخلاف فيه، أو أن الزمن كفيل بتقويمه، وربما تلمَّس آخرون موطن الداء وخفي عليهم سبيل الاستشفاء، وفي كلٍ فهو يعبر عن روح الإرجاء التي سرت في الأمة فأصابت أركانها وعطلتها عن إعادة البناء، والعودة لصحيح الإيمان.

 لقد  كانت الأمة بحاجه لتوجيه الجهود في مساراتها الصحيحة وفقًا للأولويات التي حددها ديننا الحنيف، ” فإنَّ أي جهد نبذله في تصحيح السلوك وحده – مع بقاء المفاهيم منحرفة – لن يؤتي ثماره كاملة، ولن يُخْرِج الأمة من وهدتها التي انتكست إليها في عصرها الحاضر، إنما نحتاج أن نبذل جهدًا مضاعفًا لإزالة الغربة الثانية كالجهد الذي بذلته الجماعة الأولى من المسلمين لإزالة الغربة الأولى للإسلام. “[17]، هكذا يقرر محمد قطب ت 1435ه – 2014م، وكثيرًا ما يؤكد هذا المعنى في كتاباته، ويفصّل بعد ذلك فيما يراه سبب هذه النظرة القاصرة لطبيعة التحدي، وكيفية الخلاص؛ فيقول: ” إن الذين يظنون أن لا إله إلا الله هي الكلمة المنطوقة باللسان، سيفتحون أفواههم عجبا وإنكارا ولا شك.. لأنهم يرون الكلمة منطوقة كل يوم بمئات الملايين، ويرون السوء مع ذلك لا يتزحزح من مكانه، بل يرونه يمتد ويتسع ويشتد، ويتضاعف حجمه بمرور الأيام ..

والذين يظنون أن المطلوب من لا إله إلا الله هو التصديق والإقرار، سيفتحون أفواههم عجبا وإنكارا دون شك.. لأنهم يرون التصديق قائما – حسب رؤيتهم – ويرون الإقرار، ثم لا يجدون مشكلا واحدا قد انحل، ولا أزمة واحدة قد آذنت بالانفراج.

والذين يرون عموما أن ( العقيدة ) من ( المسلمات )، وأن التسليم حاصل بالفعل، يسعون جاهدين إلى شيء آخر غير العقيدة، لأنهم يرونها – حسب رؤيتهم – قائمة، ومع ذلك لا تغيّر شيئا من الواقع، ولا يبدو أنها قادرةً على تغيير شيء في المستقبل القريب أو المستقبل البعيد..

وهؤلاء وهؤلاء وهؤلاء هم ضحايا الفكر الإرجائي الذي أفرغ لا إله إلا الله من مضموننها الحيّ، وحولها كلمة تنطق باللسان، لا مدلول لها، ولا وزن لها في واقع الحياة.

ونحن حين ننكر ذلك الفكر الإرجائي، وندعو إلى تصحيحه وتقويمه، لا نصنع ذلك لمجرد الجدل الذهني، ولكن لأننا نرى آثاره السامة في حياة الأمة، ومقدار بعده – في الوقت ذاته – عن روح الإسلام. “[18]

لقد آثر القوم ما هو سهل، وإن ادعوا أن طريقهم شاقةٌ ووعرة، لكن طريقة القرآن حتمًا أصعب وأشق، ففيها الحاجة لإقناع الناس بأن ما توارثوه من دين الأباء والأجداد ليس هو الإسلام الذي يرضاه الله ورسوله، وهذا التغيير يجد عادة مقاومة من النفوس، وقد كان ذلك تخوف المعاندين للرسل في كل زمان.

لقد مرت الأمة بأطوار من الانحراف العقدي؛ جاءت عليه السنون بالتجذر في القلوب والطغيان على الأفئدة، فظن الناس أنهم على الجادَّة، وتصالحوا مع واقعهم المنحرف، حتى غدا الإنكار ضربًا من التعمق والتشديد واتهام الناس في دينها أو الخروج عن روح الإسلام السَمحة المعتدلة.

وراح القوم يهيمون على وجوههم، يتيهون في الأرض، ينادون ألا من خلاصٍ لنا عندكم يا أهل السياسة ويا أرباب الاقتصاد! – وكأن أزمتنا فقرٌ وبطالة، أو تخلف عن ركب الغرب في الحضارة! – وبين يديهم كتاب الله الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ” حين نقول للناس: إن طريق الخلاص يبدأ بتصحيح مفاهيم الإسلام كلها بدءًا بمفهوم لا إله إلا الله .. فنحن نعني ما نقول على وجه التحديد..

إننا ندرك جيدا أن لنا مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وأخلاقية ضخمةً إلى حد يدعو كثيرا من الناس إلى اليأس من الإصلاح.

ولكنا ندرك كذلك أن أي محاولة للإصلاح لا تضع في حسابها عودة الناس إلى حقيقة الإسلام، هي محاولة فاشلة من أول الطريق.. وتجربة قرن كامل كافية للإثبات.. “[19]


[1]  مصنف ابن أبي شيبة: 34408

[2]  صحيح مسلم: 232، مسند أحمد: 9054، سنن ابن ماجه: 3986

[3]  مسند أحمد: 15997، المستدرك على الصحيحين للحاكم: 4383

[4]  أصداء سقوط الخلافة الإسلامية في الشعر العربي الحديث، د/ ماجد إبراهيم العامري، دار الكتاب الثقافي ص94

[5]   الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية، دراسة حول كتاب:  النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة، تحقيق الدكتور مصطفى حلمي ص 190

[6]  الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية، دراسة حول كتاب:  النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة، تحقيق الدكتور مصطفى حلمي ص 190

[7]  انظر السلطان عبد الحميد، محمد حرب، دار القلم – دمشق، ص 14 – 17

[8]  حبل الاعتصام ووجوب الخلافة في دين الإسلام، للسيد محمد حبيب العبيدي الموصلي (1880-1963م) ص 13، مفتي الديار العثمانية ثم العراق والأديب والفقيه المعروف

[9]  أصداء سقوط الخلافة الإسلامية في الشعر العربي الحديث – د/ماجد إبراهيم العامري – دار الكتاب الثقافي ص105

[10]  انظر: إحياء الخلافة الإسلامية حقيقة أم خيال؟ – محمد عمارة – مكتبة الشروق الدولية ص27-31

[11]  انظر: نكبة الأمة العربية بسقوط الخلافة العثمانية – محمد الخير عبد القادر – مكتبة وهبة ص68-75

[12]  الخلافة، محمد رشيد رضا، ص 135

[13]  الخلافة، محمد رشيد رضا، ص 10

[14]  انظر: إحياء الخلافة الإسلامية حقيقة أم خيال؟ – محمد عمارة – مكتبة الشروق الدولية ص39-43

[15]  منهج الشيخ رشيد محمد رضا في العقيدة، تامر محمد متولي، دار ماجد عسيري، ص 87 – 88

[16]  معالم في الطريق – دار الشروق ص17

[17]  مفاهيم ينبغي أن تصحح، محمد قطب، دار الشروق ص20

[18]  مفاهيم ينبغي أن تصحح، محمد قطب، دار الشروق ص145

[19]  مفاهيم ينبغي أن تصحح – دار الشروق ص160

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s