دخلت أم الدرداء على زوجها رضي الله عنهما يومًا وهو مُغضب، فقالت: ما أغضبك؟ فقال: ” والله ما أعرف من أمة محمد ﷺ شيئًا إلا أنهم يصلون جميعًا “[1]، يقصد بذلك من شرائع الإسلام التي ترك النبي ﷺ عليها أصحابه إلا تأدية المسلمين صلاتهم في جماعة، وقد روي عنه أنه كان يقول: ” لو خرج رسول الله ﷺ إليكم اليوم ما عرف شيئًا مما كان عليه هو وأصحابه، إلا الصلاة “[2].
وكم يعجب القارئ أن يكون هذا كلام رجل من أصحاب رسول الله ﷺ في زمن التابعين!، والذي يظهر أن ذلك كان في الشام بعد وفود أبي الدرداء مع معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت إليها في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، حيث كثر المسلمون وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، فمازال بها حتى وفاته قرابة الثنتين والثلاثين للهجرة في خلافة عثمان رضي الله عنه، فهذا الكلام قد قيل بعد وفاة رسول الله ﷺ بعشرين سنة تقريبًا على أقصى تقدير، وأصحاب رسول الله ﷺ ما زالوا متوافرين في ظل خلافة راشدة يُقام فيها شرع الله ويحكم فيها بالكتاب المنزل، فهل بلغ النقص بالشريعة في هذه المدة الوجيزة أن تندرس شرائع الدين فلا يُعرف منها إلا الاجتماع على الصلاة؟!، ولو استمر النقص على هذه المتوالية فما بقي لنا من الدين اليوم؟!
يقول ابن حجر ت 852هـ مفسرًا كلام أبي الدرداء: ” ومراد أبي الدرداء أن أعمال المذكورين حصل في جميعها النقص والتغيير إلا التجميع في الصلاة، وهو أمر نسبي لأن حال الناس في زمن النبوة كان أتم مما صار إليه بعدها، ثم كان في زمن الشيخين أتم مما صار إليه بعدهما، وكأن ذلك صَدَرَ من أبي الدرداء في أواخر عمره وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان “[3].
ولما طالت الحياة بأنس بن مالك رضي الله عنه وقد جاوز المائة من العمر، وبلغ التسعن للهجرة، رأى من تبدل الحال ما لم يدركه أبو الدرداء، وقد دخل عليه الزهري يومًا بدمشق وهو يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: ” لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت “[4]، بل لم يعد يعرف من الشرائع إلا قول: لا إله إلا الله، فحتى الصلاة على صورتها التي يعرفها قد ضُيعت في زمنه، ويعني بذلك ما كان يفعله خلفاء بني أمية من تأخير الصلاة إلى آخر وقتها الموسع؛ فكانوا يواظبون على التأخير إلا عمر بن عبد العزيز رحمه الله في أيام خلافته[5]، فلم تعد بتلك الصلاة التي عهدها أنس زمن رسول الله ﷺ، فقد روي عنه أنه قال: ” ما أعرف منكم شيئا كنت أعهده على عهد رسول الله ﷺ ليس قولكم: لا إله إلا الله، قلنا: بلى يا أبا حمزة، الصلاة، فقال: ” قد صليتم حين تغرب الشمس، أفكانت تلك صلاة رسول الله ﷺ؟ “[6]
أفكان هذا من أبي الدرداء وأنس لونًا من التعالي على من لم يرى النبي ﷺ أو يدرك زمانه؟ أو تعجيزًا لهم عن اللحاق بذلك الجيل في الفضل والمنزلة؟!، حاشا، وقد صدر من معلمين انتدبتهم الدولة المسلمة ليقوموا بمهمة التربية، يملؤهم الحرص والرحمة للقيام بواجب الدعوة، وتدفعهم الأمانة لبذل الأعمار وهجر الديار في بلاغ الدين، ويسوقهم الخوف من كتمان العلم إلى توريثه لمن جاء بعدهم، لكن حقيقة الأمر أنه خطب جليلٌ ليس بالهين ذلك الذي أغضب أبا الدرداء وأبكى أنسًا، فقد استعظاما ما شاهداه من النقصان بعد الكمال، وبعدَ التمام تبدّلَ الحال، بعدما شهدا تنزل الوحي بقول الله عز وجل: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة:3]، ولا شك أنهما رضي الله عنهما يعرفان خطر بث هذه الروح المهلكة بين صفوف المسلمين، وقد قال رسول الله ﷺ فيما يرويه أبو هريرة عنه: ” إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم “[7]، قال مالك: ” أهلكم أفسلُهم، هو أرذلهم، أي يقول: هلك الناس، إني خير منهم، وأما إذا قال: هلك الناس على تحزن عليهم فلا بأس به “[8]
ثم إن صحابة رسول الله ﷺ أبعد الناس عن الروح المستعلية، التي تحقّر من فعل الآخرين وتحط من أعمالهم ليبزر فضلها بين الناس وتظهر منزلتها، لقد كان أحدهم يخاف النفاق على نفسه، كما نقَل ذلك عنهم من أدركهم من التابعين، فقال ابنُ أبي مُليكة: ” أدركتُ ثلاثين من أصحاب النَّبيِّ ﷺ كُلُّهم يخافُ النفاقَ على نفسه “[9]، وسئل أبو رجاء العطاردي: أرأيت من أدركت من أصحاب النبي ﷺ أكانوا يخافون على أنفسهم؟ فقال: ” أما إني بحمد الله قد أدركت منهم صدرا حسنا، قال: نعم شديدًا “[10]، ولن نذهب بعيدًا فهذا الفاروق ثاني الخلفاء الراشدين يناشد كاتم سر رسول الله ﷺ حذيفة: أأنا من المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكي أحدًا بعدك[11]، وعباراتهم المحفوظه ومواقفهم المشهورة في ذلك أكثرُ من أن يجمعها المقام.
إنه شيء آخر، ذك الذي يعظم قدر الأمانة في قلب المسلم أن يقصر في أدائها أو يتقاعس عن حملها، والدين هو أولى داخل في معنى قول الله تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب:72]، فلا يفرط في واجباته ولا يستهين بمحرماته إلا ظالم لنفسه جاهل لحقه، وهذا ما جعل أحدهم يستعظم الإحداث في دين الله أو النقصان منه وكأنه ذهاب الدين كله، كما يستعظم أحدهم الذنب في حق نفسه وكأنه التلبس بالنفاق الخالص.
ذك الشيء هو الإيمان الذي تشربه الجيل الأول من يد خير المعلمين وسيد المرسلين، فهيج فيهم حساسية ضد كل غريب دخيل على الدين، كما تُستنفر الأجسام المضادة للطفيليات والجراثيم، فهو حصن مناعة، وجهاز حماية، وحارس يقظ لا يستهين ببدعة ولا يحتقر ذنبًا، بل يراها جليلة في حق الدين وكبيرة الله في جنب الله، كما أخبر النبي ﷺ: ” إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا “[12].
إن الإيمان ينعكس قوةً في البصيرة تكبّر المحقّرَات، وتعظم المستصغرَات، فيري بها المؤمن في حق الله ما لا يراه مسلوب البصيرة، فلا يجترئ على القول بغير علم، ولا يخوض في الشرع بغير هَدي، ولا يقر لباطل بغير نكير، وذلك من ثمرات التربية الإيمانية النبوية، التي أبرزت فضل الصحابة على من جاء بعدهم، وهذا يفسر قول أنس رضي الله عنه لمن عاصرهم: ” إنكم لتعملون أعمالًا، هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي ﷺ من الموبقات “[13]، إشارة إلى تحقيرها وتهوينها في نفوسهم، فهم يحسبونها هينة وهي عظيمة في نفسها أو تؤول إلى العظم[14]، وقد روى هذا بحروفه عن عبادة بن قرص الليثي رضي الله عنه، والذي توفي قبل أنس بنحو من خمسين سنة[15]، وقبلهما حذيفة بن اليمان رضي الله عنه والذي توفي بعد استشهاد عثمان بأربعين ليلة، حيث يقول: ” إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد النبي ﷺ فيصير بها منافقًا، وإني لأسمعها من أحدكم اليوم في المجلس عشر مرات “[16]، وما قاله حذيفة رضي الله عنه يُفصح عن رصدٍ دقيق لمعامل التدهور في التربية الإيمانية بعد العهد النبوى وحتى إطلاقه رضي الله عنه لهذه العبارة، فقد استعمل في رصده كلمات كان يُعدّ صاحبها منافقًا على عهد رسول الله ﷺ، فكيف أصبحت تتردد في المجلس الواحد للمسلمين عشر مرات وأصحابها لا يُعدون بها منافقين!، لم تتغير الشرائع ولم تُنسخ الأحكام، ولكن ضعف الإيمان في النفوس فحُقّرت المحرمات فاجتُرئ عليها، وهُوّن من الواجبات فترُكت.
لم تكن هذه الكلمات منهم ضربًا من المبالغة والتهويل، أو تصنعًا وتشبعًا بما لم يُعط أحدهم؟! حاشا، وقد عبرت مواقفهم العملية الكثيرة عن صلابتهم عند حدود الله وغيرتهم على حرماته، استعظامًا للمخالفة أو رد الشرائع، في مسائل تدق في عيون المتأخرين، لقد أخبر عبد الله بن عمر رضي الله عنه يومًا بحديث سمعه من رسول الله ﷺ إذ يقول: ” لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنّكم إليها “، فقال بلال – ابنه -: والله لنمنعهن، فأقبل عليه عبد الله: فسبه سبًا سيئا، يقول الراوي: ما سمعته سبه مثله قط، وقال: ” أخبرك عن رسول الله ﷺ وتقول: والله لنمنعهن “[17]، وفي رواية: فضرب في صدره، وفي أخرى: فما كلمه عبد الله حتى مات[18]، لقد استعظم من ابنه رد حديث رسول الله ﷺ وإن كان لقوله وجهًا حسناً، يقول ابن حجر ت 852هـ: ” وكأنه قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت وحملته على ذلك الغيرة، وإنما أنكر عليه بن عمر لتصريحه بمخالفة الحديث، وإلا فلو قال مثلا إن الزمان قد تغير وإن بعضهن ربما ظهر منه قصد المسجد وإضمار غيره لكان يظهر أن لا يُنكر عليه “[19]
وهذا عبد الله بن مغفل ينهى قريبًا له عن الخذف، فيقول: إن رسول الله ﷺ نهى عن الخذف، وقال: “إنها لا تصيد صيدًا، ولا تنكأ عدوًا، ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين”، قال: فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله ﷺ نهى عنه، ثم تخذف، لا أكلمك أبدًا[20]، وجاء أن قريبه هذا قال كالمستهين: وما بأس هذا؟، ورُوي أنه رفع شيئًا من الأرض فقال: هذه؟ وما تكون هذه؟!، استهانة بما يخذف به.
وآخر يقول: كنا عند عمران بن حصين في رهط، وفينا بشير بن كعب، فحدثنا عمران، يومئذ، قال: قال رسول الله ﷺ: “الحياء خير كله” قال: أو قال: “الحياء كله خير” فقال بشير بن كعب: إنا لنجد في بعض الكتب – أو الحكمة – أن منه سكينة ووقارا لله، ومنه ضعف، قال: فغضب عمران حتى احمرتا عيناه، وقال: ألا أرى أحدثك عن رسول الله ﷺ، وتعارض فيه، قال: فأعاد عمران الحديث، قال: فأعاد بشير، فغضب عمران، قال: فما زلنا نقول فيه إنه منا يا أبا نجيد، إنه لا بأس به[21]، فما زالوا به حتى سكن، وروي أنه قال: والله لا أحدثكم بحديث اليوم.
وآخر يقول سمعت أبا سعيد الخدري، يقول لرجل: أتسمعني أحدث عن رسول الله ﷺ أنه قال: ” لا تبيعوا الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا منها عاجلا بآجل، ثم أنت تفتي بما تفتي “، والله لا يؤويني وإياك -ما عشت- إلا المسجد[22]، وأما أبو الدرداء وعبادة بن الصامت، رضي الله عنهما فقد تركا الشام وعادا إلى المدينة يشكون لعمر بن الخطاب ما وجداه من المعارضة في نفس المسألة[23]، يقول ابن بطة ت 387هـ معلقًا: ” فاعتبروا يا أولي الأبصار!، فشتان بين هؤلاء العقلاء السادة الأبرار الأخيار الذين ملئت قلوبهم بالغيرة على إيمانهم، والشح على أديانهم، وبين زمان أصبحنا فيه، وناس نحن منهم، وبين ظهرانيهم، هذا عبد الله بن مغفل صاحب رسول الله ﷺ، وسيد من ساداتهم يقطع رحمه، ويهجر حميمه حين عارضه في حديث رسول الله ﷺ، وحلف أيضا على قطيعته، وهجرانه، وهو يعلم ما في صلة الأقربين، وقطيعة الأهلين، وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء – سماه رسول الله ﷺ حكيم هذه الأمة – وأبو سعيد الخدري يظعنون عن أوطانهم، وينتقلون عن بلدانهم، ويظهرون الهجرة لإخوانهم؛ لأجل من عارض حديث رسول الله ﷺ، وتوقف عن استماع سنته، فيا ليت شعري كيف حالنا عند الله عز وجل، ونحن نلقى أهل الزيغ في صباحنا والمساء، يستهزئون بآيات الله، ويعاندون سنة رسول الله ﷺ حائدين عنها، وملحدين فيها؟ سلمنا الله وإياكم من الزيغ والزلل “[24]
وحين تعظم الأمانة في نفس المسلم بأثر الإيمان يتنبه لمداخل شياطين الإنس والجن، فيحذر للإنحراف في مهده، بل لأسبابه قبل وقوعها، فيجفف منابعه ويغلق أبوابه، كما كان الفاروق رضي الله عنه سدًا منيعًا لكثير من الفتن والمحدثات عن الأمة، فقد سأل حذيفة رضي الله عنه يومًا، عن الفتنة التي تموج كما يموج البحر، فقال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال: أيكسر أم يفتح؟ قال: يكسر، قال: إذا لا يغلق أبدا[25].
لقد وعى من رسول الله ﷺ عن أولئك المارقة الذين يخرجون من قِبل العراق، سيماهم التحليق، فخشي أن يدركهم زمانه، فيؤتى الإسلام من قبله، فلما جاءه صبيغ بن عسل يسأل عن متشابه القرآن حسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده، حتى سقطت عمامته، فقال: ” والذي نفس عمر بيده، لو وجدتك محلوقًا لضربت رأسك “[26]، يقول ابن بطة ت 387هـ: ” فلما سمع عمر رضي الله عنه مسائله فيما لا يعنيه كشف رأسه، لينظر هل يرى العلامة التي قالها رسول الله ﷺ والصفة التي وصفها، فلما لم يجدها، أحسن أدبه، لئلا يتغالى به في المسائل إلى ما يضيق صدره عن فهمه، فيصير من أهل العلامة الذين أمر النبي ﷺ بقتلهم، فحقن دمه، وحفظ دينه بأدبه رحمة الله عليه ورضوانه.
ولقد نفع الله صبيغا بما كتب له عمر في نفيه، فلما خرجت الحرورية، قالوا لصبيغ: إنه قد خرج قوم يقولون كذا وكذا، فقال: هيهات، نفعني الله بموعظة الرجل الصالح، وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على وجهه أو رجليه أو على عقبيه “[27]، وروي في نفس السياق أن عامل لعمر بن الخطاب كتب إليه أن ههنا قوما يجتمعون فيدعون للمسلمين وللأمير، فكتب إليه عمر: ” أقبل بهم معك، فأقبل، وقال عمر للبواب: أعد سوطًا، فلما دخلوا على عمر علا أميرهم ضربا بالسوط، فقلت: يا أمير المؤمنين، لسنا أولئك الذين يعني، أولئك قوم يأتون من قبل المشرق “[28]، فتداركوا أنفسهم من بين يديه ونفوا عن أنفسهم التهمة التي يتخوف منها عمر، بأنهم ليسوا أولئك الذين يظهرون من قبل العراق، فلو كانوا أولئك لكان لعمر معهم موقف آخر.
إن هذه الحساسية التي يثيرها الإيمان في النفوس هي الضمان الذي يحفظ الدين نقيًا من التبديل والتحريف، سالمًا من النقصان والتجريف، وقد قيض الله له رجالًا ملأت حرارة الإيمان قلوبهم فبذلوا لحفظ الدين أعمارهم، ولولا تلك الحساسية وهذا التنبه في نفوس أعلام الأمة لدرس الدين، كما قال وكيع: لولا أبو بكر ذهب الإسلام[29]، يمدح تيقظه في حرب المرتدين، وصلابته في أمرهم، إذ يقول رضي الله عنه: ” والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها “[30]، وقد تميز أبو بكر عن أصحابه بشيء وقر في قلبه من الإيمان الذي لو وزن بإيمان الأمة لوزنها، فأثمر غيرة على الدين وخشية أن يدخله النقص وهو حي ولو في قدر عناق، فبالإيمان يعز أمر الدين، فكلما زاد الإيمان ارتفع الدين لقمة الأولويات في النفس، فزاد الحرص وزادت الحساسية للإحداث فيه، ومع الانتشار الأفقي للإيمان تتعدد أسباب حفظه وتستمر روافد بقائه.
ولازال أمر الدين قائمًا حتى تسلل الإرجاء إلى حقيقة الإيمان فغيرها وإلى معالمه فشوهها، وأقصاه عن دائرة تأثيره وساحة فعله، وهي الشرائع والأعمال، فأصبح كجزع الشجرة اليابسة لا تورق فيستظل الناس بظلها، ولا تثمر فينتفع الناس بثمارها، فاستهانت النفوس بالتكاليف واجترأت على المحارم وزادت في الدين ونقصت، وضعفت حينئذ الحساسية تجاه محدثات الأمور، وتبلدت المشاعر تجاه المنكرات، وتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ العبرة صارت بتصديق القلب ومعرفته، وهو ما لا يتفاضل الناس فيه عندهم، ولا يطلع عليه نبي مقرب ولا ملك مرسل، فغدى الإيمان حبيس تلك المضغة، وانطفأ نوره وذهبت حرارته، فلا يُرى أثره على دين الناس ولا يعكس واقعهم المعيشي وتفاعلاتهم الاجتماعية حقيقة الإيمان، فالإيمان قائم وإن اندثرت معالم الدين ولم يبق منه إلا الاسم.
وكذّب المرجئة ما تراه عيونهم من مخالفات في الدين بكل تأويل بعيد وتحريف سقيم، فلا بِدع؛ إذ هي حسنة على فرض بدعيتها، ولا شرك؛ إذ الشرك لا يكون إلا بالاعتقاد، ولا نفاق إذ الإيمان كامل لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل الناس فيه، لذا ” قال سفيان الثوري: خلافُ ما بيننا وبين المرجئة ثلاث، فذكر منها قال: نحن نقول: النفاق، وهم يقولون: لا نفاق، وقال الأوزاعي: قد خاف عمر النفاقَ على نفسه، قيل له: إنَّهم يقولون: إنَّ عمر لم يَخَفْ أنْ يكونَ يومئذ منافقاً حتى سأل حُذيفة، ولكن خاف أنْ يُبتلى بذلك قبل أنْ يموت، قال: هذا قولُ أهل البدع، يشير إلى أنَّ عمر كان يخاف النفاقَ على نفسه في الحال “[31].
فالعبء على المصلحين اليوم ثقيل بتصحيح بوصلة الإيمان، وتغذيته بالعلم ومتابعته بالعمل، لتتّقد شعلته في النفوس من جديد فتبدد ظلمات الجهل والخرافة، ويقوم بدوره المنشود وتأثيره المرجو في عز الدين.
المقال منشور أيضًا هنا: https://www.alukah.net/sharia/0/150186/
[1] صحيح البخاري: 650
[2] البدع لابن وضاح: 157
[3] الفتح لابن حجر ص2/138
[4] صحيح البخاري: 530
[5] انظر البداية والنهاية ص9/89
[6] البدع: 177
[7] صحيح مسلم: 139 – (2623)
[8] مسند الموطأ للجوهري ص161
[9] صحيح البخاري ص1/18
[10] تعظيم قدر الصلاة: 686
[11] سير أعلام النبلاء للذهبي ص2/364
[12] صحيح البخاري: 5949
[13] صحيح البخاري: 6492
[14] انظر فتح الباري ص11/330
[15] مسند أحمد: 20751
[16] مسند أحمد: 23278
[17] صحيح مسلم: 135 – (442)، 139 – (442)
[18] مسند أحمد: 4933
[19] فتح الباري ص2/349
[20] صحيح مسلم: 56 – (1954)
[21] صحيح مسلم: 37
[22] الإبانة الكبرى لابن بطة: 95
[23] انظر الإبانة الكبرى لابن بطة: 93-94
[24] الإبانة الكبرى ص1/259
[25] صحيح البخاري: 525
[26] انظر الإبانة الكبرى ص1/417
[27] الإبانة الكبرى ص419
[28] البدع لابن وضاح: 36
[29] الإبانة الكبرى ص9/846
[30] صحح البخاري: 1399، 1400
[31] جامع العلوم والحكم ص3/1259